“المغتبطون بالجهل”، هذه العبارة التشخيصية الفكرية الراقية، تحمل في طياتها سخرية مُرة، وهي من عبارات أستاذنا، إبراهيم البليهي، الذي يصف كل من ركن إلى ذاته، واطمأن إلى أفكاره بأنه “مغتبطٌ بجهله”. الجاهل لا يستطيع أن يتجاوز جهله إلا حينما ينزع عن نفسه حالة الاغتباط. والغبطة، هي ذروة النشوة بما يمتلك المرء مهما كان تافهاً. وفي لسان العرب: ” وفلان مُغْتَبِطٌ أَي في غِبْطةٍ، وجائز أَن تقول مُغْتَبَطٌ، بفتح الباء. وقد اغْتَبَطَ، فهو مُغْتَبِطٌ، واغْتُبِطَ فهو مُغْتَبَطٌ، كل ذلك جائز. والاغْتِباطُ: شُكرُ اللّهِ على ما أَنعم وأَفضل وأَعْطى، ورجل مَغْبوطٌ. والغِبْطةُ: المَسَرَّةُ، وقد أَغْبَطَ”.
المغتبط هو في حال من السكر والنشوة بذاته، مهما كان جاهلاً يرى نفسه إمام العلماء، ومهما كان رثاً يحسب نفسه يرتدي ألأفخم، يحب ما هو فيه من دون شكٍ أو سؤال. وما أكثر المغتبطين، حين تعدهم. أتساءل دائماً عن سبب فرح الإنسان بعيوبه وتفاهاته، لماذا لا يجد سبيلاً لإدراك العيب وتغييره؟ فأتى الله بهذه العبارة التي شرحت لي كيف يكون الإنسان فخوراً بما يستحي الناس منه، إنهم بالفعل “المغتبطون بالجهل”، الذين لا يدرون، ولا يدرون أنهم لا يدرون، ويكرهون كل شخص يسألهم أو يثير نقاشاً معهم. يريدون البقاء على ما هم عليه، مفضّلين الاغتباط بالتفاهات. حالة الاغتباط حالة ميؤوس منها، مع أن المتنبي تمنى لو أنه بقي مغتبطاً بجهله حين قال:
ذو العقل يشقى في النعيم بعقله
وأخو الجهالة بالشقاوة ينعمُ!
والشاعر محمد السديري أنشد مرةً:
المستريح اللي من العقل خالي
ما هو بلجات الهواجيس غطاس!
قلتُ: يشترك الناس في أنهم يولدون جهّالاً، لا يعلمون شيئاً، ويختلفون فيما بعد حينما يزيلون غشاوة الجهل، وفي القرآن: “والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً”، فالجهل ليس عيباً، وإنما العيب في الاستسلام له، يقول أفلاطون: ” إن من عرف الجهل كان عاقلاً، ومن جهله كان جاهلاً بمنظومة عقله”.
كل الذين يبددون أوقاتهم في حراسة الجهل، والخوف من التعلم والسؤال هم أناس اغتبطوا بجهلهم. لدرجة أن الكثير من المغتبطين لشدة فرحهم بحالات تجمدهم العقلي يخافون من العين، وهذه ذروة الاغتباط، أن يخاف الإنسان الجاهل من عينٍ تحسده على جهله، أو أن يخاف بعض المغتبطين من انقضاض الغرب لسرقة جهلهم، أو أن يذهب إلى المقرئ ويطلب منه أن ينفث عليه لأنه يعتقد اعتقاداً جازماً أنه “محسود”، وهذه أعلى علامات “الاغتباط بالجهل”!