كثيراً ما يردد الباحثون لأوضاعنا المتردية عن مخرج، حديثهم عن حاجتنا إلى المصلحين، على كل الصُعد، وبالذات على الأصعدة الفكرية. وفي هذه السياقات يأتي ذكر مصلحين مروا بتاريخنا المعاصر، ولا تخلو القائمة بطبيعة الحال من جمال الدين الأفغاني (1839-1897م) ومحمد عبده (1849-1905م) رائدا الإصلاح الإسلامي في أواخر القرن التاسع عشر. فالأفغاني وعبده، وإن مثل كل منهما البداية وهبة اليقظة، وخصوصا على يد الأفغاني الخطيب والثائر، الذي ما فتئ يمارس نشاطه في مختلف أنحاء العالم الإسلامي، داعياً للإصلاح بأبعاده السياسية والفكرية والأممية، إلا أن هناك العديد من الأدوار الممهدة لهما، قام بها أمثال رفاعة الطهطاوي، وخير الدين التونسي، وحسين المرصفي، وفارس الشدياق، وعلي مبارك، ومدحت باشا وغيرهم، بيد أنّ هذه الجهود لم تظهر ثمارها إلاّ على يد الأفغاني ويد تلميذه محمد عبده ومن تربوا على فكرهما من بعدهما. فقد سبق للطهطاوي أن دعا إلى تعليم البنات وكذلك إلى استخدام الشَرطة (وهي الدستور بتعبير هذا العصر)، كما كان أول من عبر عن المواطنة وظهرت في تعبيراته مفردة الوطن، وتحدث عن الأُخوة في الوطن، ودعا كما يقول ألبرت حوراني في الفكر العربي في عصر النهضة إلى: “تفسير الشريعة على ضوء الحاجات الحديثة وأن عليهم أن يتعرفوا إلى العالم الحديث. وبالتالي أن يدرسوا العلوم التي ولّدها العقل البشري”، ولكن يظل هناك فرقا جوهريا بين المشروعين، فبينما كان رفاعة قريباً من السلطة التي اختارته للابتعاث مع البعثة الأولى لفرنسا سنة 1824، في عهد محمد علي وبعده، ظل الأفغاني على الجانب المضاد منها، وظل كذلك محمد عبده أغلب وقته، مما يجعلنا نقول إن مشروع الأفغاني وعبده لم يكن طرحاً مستخفياً أو متدثراً بدثار الأدب ومراعاة الذوق في مخاطبة الحكام، شأن الطهطاوي، بل كان خطابهما خطابا محرجاً ومستفزاً له في أغلب الأحيان! من هنا يمكننا القول إن المشروع الإصلاحي للأفغاني قد حوى ما سبقه من مشاريع وأفكار، وكما يقول الدكتور أحمد أمين في وصف مشروع الأفغاني: “لئن كان محمد بن عبد الوهاب، يرمي إلى إصلاح العقيدة، ومدحت باشا يرمي إلى إصلاح الحكومة والإدارة، فالسيد جمال الدين يرمي إلى إصلاح العقول والنفوس أولاً، ثم إصلاح الحكومة ثانياً، وربط ذلك بالدين”، هكذا كان مشروع الأفغاني وعبده أوسع من سواه، فقد اتهم الأفغاني في إيران مثلاً بأنه وهابي، رغم أنه شيعي الأصل، واتهمه المتشددون السنة بأنه باطني يتدثر بالسنة ويبطن التشيع والرفض، بينما كان جزءًا من حملة التقليديين في الأزهر على محمد عبده سببها حملته على القبور وبناء الأضرحة وزيارتها، ودعوته لتطهير التوحيد من الشوائب التي حاقت به! لكن الأفغاني وعبده، كانا كالنبتة في غير موضعها، وهما وإن أثّرا في مجتمعاتهما وخلفا تراثاً زاخراً بالإصلاح، إلاّ أن المشروعين لم يُكتب لهما النجاح كما يجب، ولو قُدّر لأحدهما أو لكليهما أن يعودا لينظرا في أوضاعنا الراهنة، لندبا حظهما الذي أعادهما بعد أكثر من قرن من الزمان، ليريا الأوضاع أكثر تردياً، والأمور أكثر سوءا. السبب في ظني يكمن في أمرين جوهريين، أحدهما أن الرجلين لم يؤسسا مدرسة يمكن أن تتكفل بنقل الأفكار بشكل مؤسسي، والثاني أن الدعوات الإصلاحية إن لم تجد دولة تؤمن بها، ستذهب أدراج الرياح أمام عجز الأفراد، وإن كانوا عظاماً!
جميع الحقوق محفوظة 2019