العولمة ليست شراً محضاً، ولا خيراً محضاً، هي ليست فكرة مجرّدة. إنها فضاء للحركة بين مختلف اقتصاديات وثقافات وفنون العالم. المناهضون للعولمة الليبرالية لديهم انتقادات لها على المستوى النظري. لكن واقع العولمة أقوى من تلك النظريات. العولمة هي: التشابك المقيم من غير انقطاع. العولمة تيار اقتصادي بالأساس، يؤثّر في الثقافات والفنون. ويبدد الحدود بين الحضارات. البعض رأى أن العولمة حالة من الأمركة التي “تغربن” المجتمعات المتخلفة سلوكياً، وتبقيها على نفس مستوى التخلف من الناحية الثقافية والفكرية. وإذا أردنا أن نعرف الحجج القوية والنظرية لمناهضي العولمة فلنرجع إلى أرشيف صحيفة “لوموند دبلوماتيك” الفرنسية؛ والتي أخذت على عاتقها ضرب العولمة من قبل فلاسفة “اليسار”. الحديث عن العولمة عاد بعد بركان آيسلندا، حيث أحدث البركان الطبيعي شرخاً كبيراً في مجال العولمة، على مستوى النظرية، وعلى مستوى الواقع. بقيت العولمة معلّقة طيلة فترة ثورة البركان. الترابط الاقتصادي كاد أن يهدد حياة الناس وأن يشل اقتصادهم ومصدر عيشهم ورزقهم. الترابط الكوني على مستوى الغذاء والطبابة تحديداً هو ما أعطى لوناً حزيناً لمفهوم العولمة. في عموده اليومي في جريدة “لكسبريس” الفرنسية، كتب “كريستيان ماكاريان” عن هذه المعضلة في مقال مميز جاء فيه: “والبركان لا يقر بأصول البروتوكول، ولا يعمل بموجبها. فرؤساء الدول والمواطنون العاديون سواء لديه. كما أعاد البركان البحرية الملكية البريطانية الى الخدمة، وأماط الستارة عن مزاعم العجلة الملحة ودعاويها. والقرينة على هذا كله تعليق العولمة الذي نجم عن حمم البركان… فالرئيس الروسي يتحدى الجزيئيات، ويذهب الى تشييع “ليش كاشينسكي” بينما يتخلى أوباما عن عزمه الأول، ودلالة المقارنة لا تخفى”. كأن البركان كشف عن ثغرة العولمة، ضعف إمكانيات التنسيق بين مختلف أرجاء العالم لمواجهة متغيرات الطبيعة، بل على العكس فرضت قوى الإنتاج ممثلةً في رموز الصناعات العالمية قرار ترحيل النقاش حول أزمة المناخ إلى أجل غير مسمى. لأن الكون كله –في نظرهم- مجرد أداة في مكائن الإنتاج. العولمة لم تتم عبر إرادة البشر، بل عن إرادة فئة من المتنفذين في العالم بغض النظر عن كون العولمة خيراً أو شراً. هناك مجال قفزت العولمة عليه، وهو اختيار البشر لهذا الفضاء. كتب “هانس بيتر مارتين وهارالد شومان” في كتابهما المشترك “فخ العولمة”: “لو قدر لستة مليارات إنسان أن ينتخبوا الحياة التي يريدونها، لانتخبت الغالبية العظمى منهم حياة الطبقة الوسطى السائدة في واحد من أحياء سان فرانسيسكو، ولاختارت أقلية منهم مطلعة على واقع الحال وذات كفاءة عالية، بالإضافة إلى ذلك مستويات الرعاية الاجتماعية، التي كانت سائدة في ألمانيا الغربية في السنوات التي سبقت سقوط جدار برلين”. لكن لسوء الحظ البشر لم يقرروا مصيرهم، بل تم تقريره بالنيابة عنهم. بواسطة الخمس الذي يسيطر على بقية أخماس العالم. لهذا وجد “اليساريون” في العولمة مجالاً لتجديد أطروحاتهم حول السلطة التي تمثلها سلطة رأس المال كخطر يهدد أخلاق البشرية ووجودهم. العولمة لم تكن خياراً اضطرارياً، بل هو فضاء تشكّل نتيجة تطور عقلية السوق، اتجهت القوى الاقتصادية لاستبدال الجدران التي كانت سائدة بالخطوط العامة، خطوط التواصل بين الأمم. لهذا فإن أي قارئ للعولمة يرى أن فيها سوءات كثيرة. كما سيعثر على إيجابيات كثيرة. القراءات المناهضة للعولمة جذّابة من الناحية النظرية، لكنها ممتنعة التطبيق. لأن كل شيء أصبح معولماً. هذا مع أن العولمة لم تأخذ باعتبارها تفادي أخطار الطبيعة. لهذا استطاع بركان آيسلندا أن يفقأ عينها. وأن يكشف عن بعض عورتها.
جميع الحقوق محفوظة 2019