ترسم الثورات الحالية واقعاً جديداً في العالم العربي. ومع كل الإيجابيات التي جاءت بها، فإن إغفال السلبيات الممكنة والمحتملة يجرنا إلى تفاؤلٍ مفرط يمنعنا من رؤية الثغرات التي تأتي بها حالات التغيير عادةً. من بين المخاطر التي تحيط بالبلدان الثائرة بعد سقوط النظام الحاكم مجيء الأصوليين المتطرفين إلى الحكم، والبعض يظنّ أن التحذير من مجيء الأصوليين إلى سدة الحكم بني على موقف شخصي، أو على رؤيةٍ صارمة حادة، مع أن المخاوف تتضح حين نتابع تصريحات رموز الأقليات وتصريحات مثقفيهم وكتابهم. لأن الأصولية حين تحكم البلد الذي أنجزت ثورته، فإنها سترسم مؤسساتٍ غير مدنية، وبالتالي تبنى القوانين على أساسٍ الفكر الديني الذي تتبناه الأكثرية بينما تضيع الأقلية، وتكون رهن أيديولوجيا حاكمة غير آخذةٍ بالصياغة المدنية للدولة. فالحريات الدينية شرط للدولة المدنية. وعلى الأطياف الإسلامية في سوريا أو ليبيا أو مصر أن يعلموا أن الحريات الدينية أساسية، سواء للمختلفين ديناً أو المختلفين مذهباً، أو للذين يختلفون على مستوى الانتماءات الفكرية، إذ لا يمكن أن يكون الرأي الواحد مسيطراً، وإلا فإنهم سيكررون مأزق الحزب الواحد السياسي الذي ثاروا عليه. فالرأي الواحد يحمل نفس أمراض الحزب الواحد. وعلى المجالس الانتقالية الانتباه إلى أن الأطياف الأخرى لا يجب أن تعامل بوصفها هامشاً، ولا على اعتبار انها أقلية، وإنما يجب أن تعامل بصفتها شريكة أساسية، وجزءاً من نسيج الدولة ومن المجتمع الذي تأسست فيه وعليه. وكل صياغةٍ للقوانين لا يجب أن ترسم على أساس الأكثرية لتهمش الأقلية، أو لتلزمها على الخضوع لرأيٍ أو نظامٍ لا تؤمن به، لهذا فإن الصياغة المدنية أول تحدٍ تقف أمامه التنظيمات الأصولية أو الحركات الإسلامية التي ربما تصل إلى الحكم، ولا شك أن الجماعة الليبية المقاتلة ممثلةً بعبد الحكيم بلحاج صارت جزءاً من النسيج السياسي، والإخوان المسلمين في سوريا يستعدون لخوض غمار السياسة، فالتحديات أمامهم والاختبار يوشك على البدء، هل سيتمكنون من وضع نظامٍ مدني يشمل كل حقوق الإنسان المكفولة في “الإعلان العالمي لحقوق الإنسان” وعلى رأسها الحريات الفكرية والدينية أم لا؟! الثورة الفرنسية عام 1789 رفعت شعار:”حرية، مساواة، أخوة” وهذه المفاهيم التي نحتاجها في الثورات الحالية. فلا أحد أفضل من أحد، والمجتمع يتساوى في الوطنية، ويحق له ممارسة الحرية كاملةً غير منقوصة، وتضبط حريات الأفراد بالقانون والنظام العام. إن الحركات الأصولية أو أفرادها بعد أن تتم الثورات وتهدأ عليهم أن يندمجوا في اللغة المدنية، وأن يراجعوا أفكارهم، وأن لا يهيمنوا من خلال قوة السلاح على مشاعر الأقليات ويرعبونهم بأيديولوجياتهم القاسية والتي تؤذي الإنسان ولا تمنحه الحرية ولا الأخوة ولا المساواة. في سوريا هناك أقليات كثيرة، وفيها تنوع واختلاف كبير، من العرب إلى الأكراد إلى المسيحيين والمسلمين، إلى العلويين والسنة، كلها أثنيات حين يحفظها النظام الديمقراطي المدني تكون عنصر ثراء، ويكون الاختلاف “غنىً” للإنسان السوري. لا يمكن لأي مجتمع أن ينهض وهو يقسم الناس إلى أكثرية وأقلية، لأن دولة المؤسسات المدنية، والنظام الديمقراطي يذيب تلك الفروقات لتصبح الوطنية هي الأساس، وتبقى القناعات الدينية والمذهبية والفكرية خاصةً بالإنسان نفسه، وبالفرد ذاته، ويكون ما يجمع الناس وطنيتهم، حتى تبلغ الدولة ذروة مدنيتها حين لا يسألك الناس عن مذهبك أو دينك، بل يعرفونك بصدى ما تنجزه لوطنك من التزام وأخلاق أو بذل وسخاء أو عمل وإنماء. التحديات التي تطرحها الثورات كثيرة، ولعل مسألة الأقليات من أكثر التحديات وضوحاً وراهنيةً في هذه الفترة المتحولة من تاريخنا العربي.
جميع الحقوق محفوظة 2019