… وقدْ عَلِمَ الأصدقاءُ مَيْلِيَ التامَ وانحيازيَ المعلنَ لأبِي الطيب في كل حوار ومجلس، لكنَّ الأقربين منهم يعرفون أَنِّي في مسائل النفس واضطراب المشاعر أفزعُ لرجل غير الجعفي أحمد بن الحسين، فالمتنبي يصلح أنْ تقابلَ به الناس في كل حين، فهو صوتُ العقل ورأسُ الحكمة، لكنَّه جامدٌ منصفٌ لا يَصْلُحُ إلَّا للسُّلوانِ التام والتقدم للأمام، أمَّا إذا أردتَ التأملَ وحيداً في نكبات الحياة بعيداً عن المجالس التي لا ينفع فيها التأمل والاستطراد -لرجل مثلي يحب الاستطراد ويحاولُ أنْ يقاومَه على الدوام- فلا أوصيكَ بغيرِ الهذلي أبي ذؤيب، رحمه الله، غيرَ أنَّ الهذلي على شاعريتِه المفرطة يفتِّتُ الكبدَ ويهمِي ماءَ العين، ولا شيء من أخباره يسرُّ المتتبِّعَ إلَّا لاميته التي يسميها النقاد لوحة العسل الإبداعية، وللأسف حتى لاميته غير محفوظة في الصدور رغم براعة التصوير وتفوُّقِها غزلياً على كثير مما يحفظه العشاق، وقبل أنْ أسافرَ إلى أحزان الهذلي دعوني أتبرأ، ولو مرة من جحفِ المتنبي وصلفِه الذي يفكر بعقله لا بلسان قلبه أمام المصائب:
ألَا لَا أَرَى الأَحْدَاثَ حَمْداً ولَا ذَمَا
فَمَا بَطْشُهَا جَهْلاً وَلَا كَفُّهَا حِلْمَا
هذا هو المتوقَّع من المتنبي، تجلداً وتصبُّراً وعقلانية لا يُحسنُها أفضلُ الرجال في حالات لا يحسن معها هذا الحياد البارد، لكن اسم المخضرم الهذلي مربوط مباشرة لا بلاميته الغزلية، ولكن بعينيته التي سارت بها الركبان، وقبل الذهاب للقصيدة التي تُكتب بماء الذهب. دعونا نذهب لمجلس عبد الملك بن مروان الذي اجتمع إليه جرير والفرزدق والأخطل، فأحضرَ كيساً فيه خمسمائة دينار، وقال لهم: لِيَقُلْ كُلٌّ مِنْكُمْ بَيْتاً في مَدْحِ نَفْسِه، فَأَيُّكُمْ غَلَبَ فَلَهُ الكِيسُ، فبدرَ الفرزدقُ فقال:
أنَا القَطِرَانُ وَالشُّعَرَاءُ جَربَى
وفِي القَطِرَانِ لِلْجَرْبَى شِفَاءُ
فقَالَ الأَخْطَلُ:
فَإِنْ تَكُ زقَ زامِلَة فإنِّي
أنَا الطَّاعُونُ لَيْسَ لَهُ دَوَاءُ
فقَالَ جَريرُ:
أَنَا المَوْتُ الَّذِي يَأْتِي عَلَيْكُمْ
فَلَيْسَ لِهَارِبٍ مِنِّي نَجَاءُ
فقالَ عبدُ الملك: خُذِ الكيسَ، فلعمري إنَّ الموتَ أَتَى على كلِّ شيءٍ.
وشاهدي من اجتماع الثلاثة بالخليفة أنَّ أبا ذؤيب الهذلي كانَ القطرانَ للشعراء حياً وميتاً، وابتُلي بنوه بالطاعون، كما تقول الروايات، على خلاف في عدد من فقد من بنيه بالمرض أكانوا خمسة أم سبعة من البنين، وعن الموت فقد وقف خويلد بن خالد عليه حتى سلت نفسه وسلا بشعره من بعده كلُّ مفجوع بقريب أو حبيب، وعنه قالَ الجمحي في طبقاته: «وكانَ أبو ذؤيب شاعراً فحلاً، لا غميزة فيه ولا وهن»، وقالَ أبو عمرو بن العلاء: سئل حسان: من أشعر الناس؟ قالَ: حياً أو رجلاً؟ قال: حياً، قال: أشعر الناس حياً هذيل، وأشعر هذيل غير مدافع، أبو ذؤيب، ويزيد الأصفهاني في «أغانيه»:
«كان فصيحاً كثيرَ الغريبِ مُتمكِّناً في الشِّعر».
ومن الإنصاف رغم حياة أبي ذؤيب العصيبة التذكير بأنَّه كان مغازلجياً من الطراز الرفيع، وعندي كمحب لأبي هذيل أنَّ شعرَه من أقرب الشعر الفصيح للصور في الشعر العامي حتى يومنا هذا، ومن تأمَّل مطلعَ لوحة العسل الإبداعية فهم مقصدي وحوى مرامي:
وإنَّ حَدِيثاً مِنْكِ لَوْ تَبْذُلِينَه
جَنَى النَّحْلِ فِي أَلْبَانِ عُوذ مطَافلِ
مطافيل أبكار حديثٍ نتاجُها
تُشَابُ بِمَاءٍ مِثْلَ مَاءِ المَفَاصِلِ
ولا شك أن التجارب هي التي تصقل الرجال وتحفر بعيداً في نفوسهم حتى تصفي معدن الحكمة، المعدن النفيس الذي إن طرق بالوزن والقافية سُمِّيَ شعراً، وبه تفوقت العرب على سائر الأمم، لذا من الإنصاف أن نذكر طرفاً من تعاسات ومصائب أبي ذؤيب التي تعلل صافي الحكمة الدانية على الأقل في عينيته التي لا تزيدها الأيام إلا خلوداً، فهو مخضرم، لكنَّه لم يَلْقَ الرسولَ صلى الله عليه وسلم، وإنَّما صلَّى عليه، ولا يُعرف عن طفولته شيءٌ، حتى إنَّ الرواة يجهلون إن كانَ عاش في كنف والديه، أو أن اليتم كان مفتتحاً لحياته التي لم يخلدها إلا شعره عن الموت، وتخيَّلوا أنَّ الشخصَ الوحيد الذي مرَّ بي من أهله هو ابن أخته خالد بن زهير الذي ذُكر في شعره، ليس هذا فحسب، بل يذكر ابن عبد ربه الأندلسي في «العقد الفريد» أنه كانَ لأبي ذؤيب سبعة من البنين ماتوا جميعاً إلا طفلاً واحداً، وللطفل الذي سيكبر قصة نختم بها مآسي شيخنا الهذلي.
أَمِنَ المَنُونِ وَرَيْبِهَا تَتَوَجَّعُ
والدَّهْرُ لَيْسَ بِمُعْتِبٍ مَنْ يَجْزَعُ
قَالت أُمَيْمَةُ مَا لِجِسْمِكَ شَاحِباً
مُنْذُ ابْتُذِلْتَ وَمِثْلُ مَالِكَ يَنْفَعُ
أَمْ مَا لِجَنْبِكَ لَا يُلَائِمُ مَضْجَعاً
إِلَّا أَقَضَّ عَلَيْكَ ذَاكَ المُضْجَعُ
فَأَجبتُهَا أَمَّا لِجسْمِي أَنَّهُ
أَوْدَى بَنِي مِنَ البِلَادِ فَوَدَّعُوا
وإنْ وافق الهذلي الجعفي في حتمية المطلع، إلا أنَّه ذهب إلى حيلة تلطف وقع المصيبة، وتبرر سلوانه كما سيأتي في القصيدة بانتهاج حوار مع أميمة التي تسأله عن شحوبه، فيفتح مواجع القلب واحدة بعد أخرى، ويأخذ حقَّه كاملاً في الإجابة عن شحوبه إذ يقول:
أَوْدَى بَنِي وَأَعْقَبُونِي غُصَّة
بَعْدَ الرُّقَادِ وَعَبْرَةً لَا تَقْلَعُ
سَبَقُوا هُوِيَّ وَأَعْنَقُوا لِهَوَاهُمُ
فُتُخُرِّمُوا وَلِكُلِّ جَنْبٍ مَصْرَعُ
فغَبَرْتُ بَعْدَهُمُ بِعَيْشٍ نَاصِبٍ
وإخَالُ أَنِّي لَاحِقٌ مُسْتَتْبِعُ
وَلَقَدْ حَرِصْتُ بِأَنْ أُدَافِعَ عَنْهُمُ
فَإِذَا المَنِيَّة أَقْبَلَتْ لَا تُدْفَعُ
وَإِذَا المَنِيَّة أَنْشَبَتْ أَظْفَارَهَا
أَلْفَيْتَ كَلَّ تَمِيمَة لَا تَنْفَعُ
وقد أعجزَ الموتُ الناسَ قبل بنيكَ يا شيخُ هذيل، لكنَّ المصابَ في خمسةٍ أو سبعةٍ من فلذات الكبد وبالطاعون مرة واحدة لموهنٌ شُمَّ الجبال، وسببٌ كافٍ عند انتظار الموت حين تنضجُ الحكمة في الأبيات التي تلي وصف الفاجعة:
فَالعَيْنُ بَعْدَهُمُ كَأَنَّ حِدَاقَهَا
سُمِلَتْ بِشَوْكٍ فَهِي عُورٌ تَدْمَعُ
حَتَى كَأَنِّي لِلْحَوَادِثِ مَرْوَة
بِصَفَا المُشَرَّقِ كُلَّ يَوْمٍ تُقْرَعُ
لَا بُدَّ مِنْ تَلَفٍ مُقِيمٍ فأنتظِرْ
أَبِأَرْضِ قَوْمِكَ أَمْ بِأُخْرَى الْمَصْرَعُ
فلم يعد للنوم مكان في عين الشيخ بعد بنيه، وعينه عوراء دامعة كأنَّ الشوك ساكن في إنسان مقلته، وهو مروة الحوادث التي تطوف عليه بكرة وعشية، وهو الآن جازع ينتظر الموت هنا أو هناك، ولم يبقَ من بنيه إلا واحدٌ عند كل الرواة، ذاك الفتى الميمون الذي أخرج من صدر والده الزفرة التي ذهبت بيتاً على كل لسان:
وَالنَّفْسُ رَاغِبَة إذَا رَغَّبْتَهَا
وَإِذَا تُرَدُّ إِلَى قَلِيلٍ تَقْنَعُ
وهو البيت الذي قال عنه الأصمعي: «هذا أبدعُ بيتٍ قالته العرب»، ولا أدل على صحة شهادة الأصمعي من خطأ الحُفَّاظ والندماء الذين يخلطون بيتَ أبِي ذؤيب بكل الأبيات التي تبدأ بـ«والنفس»، فمن مكمل بعد أن تقول: «والنفس»… كالطِّفلِ إنْ، أو… والنفس من خيرها، أو حتى والنفس من شرها.
والحق أن المعنى وإن طال طريقه يعود لأبي ذؤيب، الذي أرسى سفينة القناعة بالتقليل من وهم امتلاك أي شيء بعد فقد بنيه، ولو فتح باب الأماني على نفسه، وطلب مزيداً على الواحد الذي بقي لهلك في مكانه.
وقد تسلَّى بهذه القصيدة خلقٌ بعد أبي ذؤيب، وشهيرة قصة المنصور حين فُجِعَ فبحث عمَّن يحفظ العينية فلم يجد إلَّا شيخاً مؤدباً كرَّر عليه عَجُز: «والدهر ليس بمعتب من يجزع»، مائة مرة، فكافأه عليها بمائة درهم!
وقد غزا أبو ذؤيب الرومَ مع المسلمين، فلما قفلوا أخذه مرض الموت، فاقترع ابنه الوحيد وابن أخيه أيهما يبقى معه، فقال لهما أبو ذؤيب. اقترعا، فطارت القرعة لأبي عبيد، فتخلف عليه ومضى ابنه مع الناس. فكان أبو عبيد يحدّث: قال لي أبو ذؤيب: «يا أبا عبيد، احفر ذلك الجرف برمحك ثم اعضدْ من الشجر بسيفك ثم اجررني إلى هذا النهر فإنك لا تفرغ حتى أفرغ، فاغسِّلني وكفِّنِّي ثم اجعلني في حفيري، وانثل عليَّ الجرف برمحك، وألقِ عليَّ الغصون والشجر، ثم اتبعِ الناسَ فإن لهم رهجة تراها في الأفق إذا مشيت كأنها جهامة».
قال أبو عبيد: فما أخطأ ممَّا قال شيئاً، ولولا نعته لم أهتدِ لأثر الجيش، ثم مضيتُ حتى لحقت بالناس، فكان يقال: «إن أهل الإسلام أبعدوا الأثر في بلاد الروم، فما كانَ يعرف وراء قبر أبي ذؤيب قبرٌ يُعرف لأحد من المسلمين».
جميع الحقوق محفوظة 2019