لندن – عند الشروع في الكتابة عن شخصية مثل تركي بن عبدالله الدِّخيل يتبادر إلى الذهن كيف أن هذا القصيمي الأصل قد حلّق بجناحين في عالم الانفتاح والشهرة في الحوار وقبول الآخر، ومعلوم أن القصيم وعاصمتها بريدة مصدر لرجالات التشدد عبر تاريخها، لكن في الوقت نفسه أظهرت القلائل، قياساً بكثافة المتشددين والتشدد فيها، منهم شخصيات حلقت بعيداً لتعانق أفكار وهواجس الشاعر المعروف أبي العلاء المعري، مع أن ما بين عبدالله القصيمي والمعري حقبة زمنية تعد بأربعة عشر قرنا، ذلك القصيمي الذي عُرف بتشدده السلفي الوهابي انتقل إلى الضفة الأخرى ليكون أيقونة للتنوير ليس بالجزيرة العربية بل على مساحة المنطقة ككل.
جذر يرنو للاختلاف
لا يفوتنا أيضاً أن تركي الدخيل المولود في العام 1973 بالرياض يمت بصلة قرابة لقصيمي آخر رحل إلى بغداد لينشئ هناك جريدة “الرياض” (1910)، ومع ما يحمله سليمان بن صالح الدِّخيل من تراث القصيم السلفي إلا أن انفتاحه، الذي يمكن تسميته بالذاتي، عجل به إلى الرحيل ليكون تلميذاً عند محمود شكري الآلوسي، ويتعامل مع علماء النجف لطبع جريدته ومجلة العلم النجفية لصاحبها صاحب العمامة السوداء هبة الله الشهرستاني.
يصعب تخيل الصلة بالتنوير والانفتاح الذي ازدان به تركي الدخيل بالقريب المذكور، فمَن يعرف آباء تركي يعلم أنهم عائلة مستثناة من التشدد، من الجد صعوداً إلى الأب والإخوان. حتى أن أول سؤال تسأله لتركي: ممَن أنتم؟ وهذا يعطيك تصوراً آخر عن المملكة العربية السعودية، والقصيم بالذات، بأنها عالم بشري كبقية العوالم لم تك على لون واحد، مثلما يعتقد الجاهلون بأحوالها، أو الذين حافظوا على انطباعهم ولا يريدون مواجهة ما هو موجود على أرض الواقع.
نعم كان آباء وأجداد تركي على مستوى من التنوير، قياساً بمحيطهم، وتأتي الغرابة أن أول متشدد ينشأ في العائلة هو تركي الدِّخيل نفسه. فعندما اشتد الجهاد إلى أفغانستان، بداية من الثمانينات كان تركي في المدرسة الابتدائية، يصاحب المتشددين ويدلف إلى تكاياهم السلفية. وهناك عرف أن الجهاد واجب ورجولة أيضاً، وبدأ يعاند الأهل بوجود جهاز التلفزيون، فخاف عليه الأب والأم، اللذان يألفان الدين ولم يألفا التشدد، وأخذ يطلب من الأم الموافقة على الذهاب إلى أفغانستان، ولولا موقف الأهل الصارم خشية على بكرهما لما درينا ماذا يكون مستقبل تركي، وما هي كنيته بين كنى المجاهدين؟
تركي مشروع المجاهد
لحظات صعبة عاشها الصبي ثم الشاب تركي الدخيل بين مغريات الجهاد والمشيخة الدينية وواقع حال الأهل، وكيف اصطدمت في داخله تلك المتناقضات، وكيف تخلص منها لصالح التنوير والحوار، ليكون خصماً لدوداً للتخلف والانفعال الطائفي والقتل باسم الدين وفكرة الجهاد خارج جيش الدولة الرسمي، وكيف انتقل إلى الولايات المتحدة بعد زواجه المبكر، ليعود مؤهلاً لأخذ دوره في عالم الإعلام.
البداية كانت صعبة أيضاً. كان يريد مسك الخيط الذي يوصله إلى ما هو فيه الآن، من دون التفكير ماذا سيكون. لقد أجّل سفره إلى أفغانستان أكثر من عشرة أعوام، ليذهب إليها صحفياً بارعاً في فن الحوار ويلتقي بمشايخ الجهاد، الذين تحولوا بعض الشيء عن مواقفهم الأولى، حتى صاروا خصوم التشدد الطالباني، وكانت تلك الرحلة التي فيها من المخاطر والأهوال الشيء الكثير، فأفغانستان لم تكن حينها آمنة كل الأمان، بل الصواريخ لا زالت تتبادل بين جماعة مسعود شاه الذي خصه بمقابلة نشرتها الحياة في حينها، والجماعات الأُخرى من المجاهدين. جمع تركي نتاج تلك الرحلة في كتاب عنوانه “كنت في أفغانستان”. فمن يقرأ العنوان يعتقد أنه كان مجاهداً، كبقية الأفغان العرب، وكأنه يريد تأكيد حلمه في الصبا بالجهاد، ذهب إلى أفغانستان لكن برؤية أخرى، جوهرها عرض الحقائق لا أن يكون جزءاً منها.
نهض تركي الدخيل، ومن صغره، بنفسه عبر الصحافة، وبين وسط حاسد لصاحب الموهبة، يضنّ بالعون على مَن يراه متقدماً ومتوهجاً لتجاوز المراحل. وتركي لم يحرق مرحلة لكنه مر بها بقفزات ذاتية، ولم ينس يوماً من الأيام مَن أخذ بيده وقدمه تلميذاً ليكون أسطى في غضون زمن قصير، ذلك لمثابرته وجدّه. وبطبيعة الحال سيجني مثل تركي الحسد والتأويلات والاتهامات، وذلك أن للنجاح ضريبة مثلما هو معروف، مع أن جميع العارفين بأحوال تركي يعترفون بإنجازه في الصحافة والإعلام.
بدأ تركي الدخيل حياته في الصحافة مراسلاً في الشأن الرياضي، وتنقل بين عدة صحف محلية، “عكاظ” و”الرياض”، “المسلمون”، “عالم الرياضة”، مجلة “الجيل” وغيرها، وكانت البداية وهو بعمر السادسة عشرة أي في العام 1989. وما هي إلا خمس سنوات حتى بات يقف بين المحترفين في العمل الصحافي، فاتسع الأفق أمامه. وما أن يهل العام 1994 إلا وتجده شقّ طريقه خارج المحلية إلى “الشرق الأوسط” و”الحياة” ومجلة “المجلة”، وإن كانت هذه المؤسسات تابعات أو نابعات من بلاده السعودية، لكن المنافسة فيها صعبة لشاب يطلب المجد، بعد تأهيل في الصحافة المحلية، ولم يكن شخصية عادية إنما مثله سيجد المعترض أو الذي لا يريد له التجاوز على من يعتقدون أنهم مشائخ الصحافة العربية.
تركي الدخيل نموذج أراد لطموحه أن يقوده عبر ممرات الصحافة السعودية المحلية ثم العربية والأوروبية، قبل أن يجد ضالته في دقائق مضيئة على شاشة العربية استطاع من خلالها استضافة مئات الشخصيات وفتح مئات الملفات الهامة
المدرسة الأوروبية
لم يكتف تركي الدخيل بالصحافة، مراسلاً أو كاتباً. إنما مال إلى الإعلام المسموع، فصار مراسلاً سياسياً في الإذاعة، وهنا اتسعت الشهرة فالصوت أكثر مساحة من القلم، فارتبط بعمل إذاعي كمراسل مع إذاعة “مونت كارلو” الفرنسية بالمملكة العربية السعودية (1997-1998)، ثم مراسلاً سياسياً لإذاعة “إم بي سي أف أم” العام 1999، وفي هذا العام جاءت النقلة إلى الإعلام المرئي، فكان عمله في محطة “إم بي سي”.
اكتسب تركي الدِّخيل خلال هذا المشوار الطويل، وهو ما زال شاباً، خبرة كخبرة المتمرسين في العمل الإعلامي والإذاعي، ومِن دون تجاوز يقفز من العمل والمساهمة والاحتراف إلى التأسيس، أي يشارك في تأسيس عدة مشاريع إعلامية تعد كبرى في المنطقة، وما إن يأتي العام 2002 إلا ويظهر تركي مساهماً في تأسيس محطة “العربية”، المنافسة القوية لمحطة “الجزيرة”، تلك التي انفردت بالإعلام المرئي السياسي فترة ليست قصيرة من بعد أواسط التسعينات، من القرن الماضي وحتى ظهور “العربية”، وأخذ تركي يظهر على الجمهور ببرنامجه الحواري “إضاءات”. معلوم أن تأسيس “العربية” جاء لظرف أوجب أن تكون هناك قناة لها وجهة نظر مغايرة، فرضت وجودها التداعيات التي حصلت بعد 11 سبتمبر 2001 والحرب في أفغانستان ضد إمارة طالبان، ثم غزو العراق، فسحبت جمهوراً واسعاً ضاق من الصوت الواحد.
استمر تركي ملتصقاً بـ”العربية”، في مجلس إدارتها، وعبر برنامجه “إضاءات”، ولسنوات عديدة ظهرت على طاولة “إضاءات” شخصيات متنوعة النتاج الثقافي والفكر السياسي. وحصل هذا البرنامج على عدة جوائز كأفضل برنامج، اعتمد على ما كتبه أو صرّح به الضيف ومنه يتشعب الحوار.
لم يشغل البرنامج تركي عن الكتابة، فظل يتنقل بأعمدته الصحافية “حبر القلب” و”السطر الأخير” و”قال غفر الله له” وغيرها من العناوين. اعتاد تركي على كتابة المقال بأسلوبه الخاص، على شكل رسالة تصل إلى الناس سلسة غير معقدة، واعتاد أن يصنع من لمحة صورة أو من موقف مقالاً يؤثر، قاده هذا الأسلوب إلى برنامج إذاعي يبث في رمضان عبر الإذاعة “في خاطري شيء”، ومَن يسمعه ويقرأ مقالات تركي سيقول إنه مقال مسموع.
التدرج العملي في حياة تركي يروي جزءا من القصة وليس كل القصة. مِن مراسل يفتش عن معلومة ترضي رئيسه المحرر، إلى شاب يجري المقابلات، مذيع ومقدم برامج، إلى المساهمة في تأسيس مشاريع إعلامية، مثل موقع “جسد الثقافة” السعودي، الذي يهتم بالأدب والفن، واحتضن شبابا سعوديين تأهلوا منه إلى العمل الصحافي والإعلامي، ثم المساهمة في تأسيس موقع “إيلاف” منذ العام 2001 والذي ما زال مستمراً، كموقع معروف للقارئ العربي، إلى قناة “العربية”. لكن ثمة مبادرات خاصة بتركي.
ما إن يأتي العام 2006 إلا ويشكل تركي خلية لتأسيس مركز خاص في البحوث والدراسات في الإسلام السياسي والحركات الإسلامية عموماً، فيرى “المسبار للدراسات والبحوث” النور بكتابه الأول (يناير 2007)، وهو الآن يعد لكتابه الثامن والتسعين. لم يترك حركة إسلامية صغيرة أو كبيرة إلا وغار في أسبارها، بعشرة بحوث أو أكثر موثقة، وبأقلام لكتاب وباحثين معروفين، ولم تجز إلا بعد فحص أو تحكيم علمي، ليمتاز المركز بتقاليده واتفاقاته مع الباحثين.
يتفرع تركي الدخيل، وهو في دور المؤسسات، من مركز المسبار إلى دار نشر، التي اختار لها عنوانها اللافت فكانت “مدارك”، التي رأت النور بعد قليل من الكتب، لكنها سرعان ما استقطبت المؤلفين، ولم يفتها معرض من المعارض، وعلت منزلتها حتى حصلت على جائزة معرض الشارقة (2014) كأفضل دار نشر. ومن المسبار تفرع لتأسيس مركز تدريب اتفق على أن يكون عنوانه “دِربة”.
لم يتوقف طموح الأربعيني تركي الدخيل، الذي يُصادف السابع من شباط (فبراير) 2015 ميلاده الحادي والأربعين، عند الصحافي والإعلامي وصاحب المؤسسات، بل جدّ في الدراسة ليحصل على شهادة الماجستير من جامعة المقاصد اللبنانية، بعد أن أنهى الدراسة الجامعية من جامعة الإمام محمد بن سعود بالرياض، وهو الآن يعد للدكتوراه التي سينتهي منها إذا أسعفه الوقت والمجال.
بعد المساهمة في تأسيس قناة “العربية”، وتقديم برنامج “إضاءات” من على شاشتها، نال تركي الدخيل الثقة في أن يكون مدير القناة العام، وهو مستشار في مكتب وليّ العهد السعودي السابق سلمان بن عبدالعزيز، الملك حاليا
في تحديات الوقت
قد يسأل الذي يقرأ زحمة النتاج لتركي الدخيل، مِن أين له الوقت لعمل كل هذا، وهو المعروف بعلاقاته الواسعة جدا، بين صداقات ومعارف؟ إنه تنظيم الوقت، فتركي قد يسجل برنامجه الإذاعي في فندق أو طائرة، ويكتب مقاله اليومي والأسبوعي في السيارة أو الاستراحة، والآن لديه مقال يومي في “عكاظ” السعودية ومقال أسبوعي في “الاتحاد” الإماراتية، ويسجل برنامجه التلفزيوني حيث المدينة التي يكون فيها.
لتركي الدخيل عدة كتب، والبداية كانت “ذكريات سمين سابق”، فتركي وهو يركض مراسلاً ومذيعاً كان بديناً، حتى أنه كان يحجز في الطائرة مقعدين، ومن الطرائف التي يكرهها عن بدانته أنه تفاجأ بوجود مقعدين له متباعدين، فاحتار المضيفون بأمره! ومن تجربته في أميركا خرج بكتاب خفيف الظل “سعوديون في أميركا”، ومن رحلته إلى اليمن ومقابلاته لشخصياتها ظهر بكتاب “جوهرة في يد فحام”، ثم صدر له “الدنيا امرأة”، “إننا نحن جوقة العميان”، “سلمان العودة من السجن إلى التنوير”، و”قال لي القصيبي”.
بعد هذا المشوار وخلاله قطف تركي الدخيل عدة جوائز: 2010 حصل برنامجه “إضاءات” على جائزة أفضل برنامج حواري من قِبل مهرجان الخليج بالبحرين، وفي استبيان مجلة “ببيان بزنس” اختير ضمن مائة شخصية مؤثرة في المنطقة العربية، وجائزة المؤسسة الأميركية للإعلام الخارجي (AAM) في أكتوبر 2014.
أخيراً، وبعد المساهمة في تأسيس قناة “العربية”، وتقديم برنامج “إضاءات” من على شاشتها، نال تركي الثقة في أن يكون مديرها العام، وهو مستشار في مكتب وليّ العهد السعودي السابق سلمان بن عبدالعزيز، الملك حالياً.
عطاء تركي ما زال مستمراً، فهو لم يكف عن الإبداع وإيجاد الأسباب لخلق الجديد في مجال الإعلام.
أخيرا لا يجب أن يستهان بالبيئات المتشددة، فتركي الدخيل القادم في أصله من القصيم قدّم ما قد لا يقدمه القادم من بيئة منفتحة جدا.
نختم بالقول ونحن أمام تشدد أخذ يطوي العالم: كيف لقادم من مكان يوصف ببؤرة التشدد أن يكون منفتحا رافعا راية التسامح بينما جيل جديد من أوروبا ينتمي إلى داعش وهو في متسع من المدنية والتقدم؟ إنها ظاهرة تستحق التأمل.