بقلم: تركي الدخيل
١٢ مارس ٢٠٢٤
كتابنا اليوم قديم في تصنيفه، مع أني لم أعرف عنه إلا قبل أسبوع، لجهلي وقلة حظي. إنه كتاب سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز (1330 – 1420 هـ)، المفتي العام السابق للبلاد، رحمه الله، وعنوانه: (تحفة الإخوان بتراجم بعض الأعيان).
دع عنك أن مُصنِف الكتاب انتقل إلى رحمة الله قبل 25 عاماً، فالقِدَم الذي أقصده يعود لأربعين عاماً قبل وفاة صاحب الكتاب، الشيخ عبدالعزيز بن باز، فقد ذَكَرَ أبرز تلاميذ ابن باز، الشيخ عبدالعزيز بن قاسم، وهو المعتني بمجموع مؤلفات المفتي السابق، في مقدمة الكتاب أن بداية تدوينات المؤلف، كانت في 1380 هـ، (أي قبل 65 عاماً من الآن)، وبعد انتقال الشيخ ابن باز من الرياض إلى المدينة المنورة، للعمل نائباً لرئيس الجامعة الإسلامية، عام 1381 هـ، كثرت الشخصيات ونشط التدوين.
أتصور حجم الفارق بين ما كانت عليه حياة الشيخ ابن باز في الرياض، وما أصبحت عليه بعد انتقاله إلى المدينة، فالجامعة الإسلامية، التي تأسست في 25 ربيع الأول 1381 هـ، 6 سبتمبر 1961 م، بالمدينة المنورة، بمرسوم ملكي من الملك سعود بن عبدالعزيز.
والمدينة النبوية، مقصد زيارة المسلمين من كل الدنيا، فقد شرفها الله بالمسجد النبوي الشريف، وفيها قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وصاحبيه رضوان الله عليهما، وفي الصحيحين، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «لا تُشَدُّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا». والمقصود: المسجد النبوي.
أُسِسَت الجامعة الإسلامية ليكون معظم طلابها من العالم الإسلامي، وصار الشيخ ابن باز، وفقاً لهذا الواقع، لا يُرى إلا مستقبِلاً وفداً من العالم الإسلامي ومُوَدِعاً آخر، ولا يخلو مجلسه من علماء المسلمين القادمين من أقطار الدنيا، خلافاً للطلاب الذين يقصدونه لحل ما يعترضهم من مشكلات، بالإضافة إلى الملتفين حوله، الناهلين من علومه، والحاضرين دروسه العلمية اليومية، وهو ما جعل الشيخ يتواصل ويتعرف ويحتك بألآف الشخصيات الجديدة، التي لم يكن يعرفها من قبل.
ترجمة ابن حميد البديعة لابن باز
الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن باز، رحمه الله، أشهر من أن يُعرَّف، ولا يمنع أن نعرض لجوانب من سيرته.
ولد بالرياض في شهر ذي الحجة من العام 1330 هـ، فحفظ فيها القرآن. ثم جوَّد القرآن على الشيخ سعد وقاص البخاري بمكة المكرمة. وأخذ علوم الشريعة واللغة العربية من مشاهير علماء نجد، مثل: الشيخ محمد بن عبداللطيف بن عبدالرحمن بن حسن آل الشيخ، والشيخ صالح بن عبدالعزيز بن عبدالرحمن بن حسين آل الشيخ، والشيخ سعد بن حمد بن علي بن عتيق، والشيخ حمد بن فارس، والشيخ محمد بن إبراهيم بن عبداللطيف بن عبدالرحمن بن حسن آل الشيخ، أول مفتٍ للديار السعودية، ومنه أخذ أكثر ما تلقاه من علوم، وعليه تخرج في علوم الشريعة واللغة العربية. يقول الشيخ عبدالرزاق عفيفي في ترجمة الشيخ ابن باز، إنه: “نبغ في كثير من علوم الشريعة، وخاصة الحديث متناً وإسناداً، والتوحيد على طريقة السلف، والفقه على مذهب الحنابلة، حتى صار فيها من العلماء المبرِّزين”.
وَلِيَ ابن باز القضاء عام 1357 هـ، لأربعة عشر عاماً، وكان عمره آنذاك (27 عاماً)، ودَرَّس في الكليات والمعاهد في عام 1372 ه، وعمره (42 عاماً)، ثم لما بلغ (51 عاماً) عُيِّن نائباً لرئيس الجامعة الإسلامية بالمدينة، وتوفي في 27 محرم 1420 ه وقد بلغ نحو تسعين عاماً، رحمة الله عليه.
وقد وقفتُ على ترجمة بليغة للشيخ ابن باز، فراقتني عباراتها الرفيعة، ولفتاتها البديعة، وهي من تحبير الشيخ الدكتور صالح بن عبدالله بن حميد، في كتابه: (رجال صدقوا… رثاءٌ ووفاء)، ولتفردها وتميزها انتقيت من بينها مقاطع، منها قوله:
“في فجر يوم الخميس السابع والعشرين من شهر الله المحرم من عام عشرين وأربعمائة وألف، فارق الدنيا وانتقل إلى رحمة الله ورضوانه، بإذنه سبحانه، علمٌ من أعلام الأمة، وبحرٌ من بحارها، وحبرٌ من أحبارها، إمامُ أهل السنة، وحامي عقيدة السلف، حجة هذا العصر، شيخنا ووالدنا سماحة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن باز”. “لقد دُفِنَت في مقابر العدل بمكة المكرمة الطاهرة، مرجعية من مراجع الفقه والفتوى، وعَلَمٌ من أعلام الحديث والسنة، ونموذجٌ شامخ من نماذج التقوى والصلاح، برحيله رحمه الله، حدثت بأهل الإسلام ثَلْمَةٌ وَاسِعَةٌ، وفُتِحَت ثَغرَةٌ عَمِيقَةٌ، يُدرِكُ المُتَأَمِلُ غَورَهَا إذا تَذَكَرَ غَزَارَةَ عِلمَ الفقيد، ويهوله عُمقها حين يَتَأَمَل اقترانَ العِلم بالعَمَل، اقتراناً أتعَبَ فيه الفَقِيدُ مَنْ بَعدَهُ، لم يتوقف يوماً عن طلب العلم والاستزادة منه، ولم يتوقف عن تعليمه وبذله، ثم لم يتوقف فيما رأينا وعلمنا لحظة عن الممارسة العلمية في حفظه ولفظه، وقوله وفعله، في البيت والمسجد، والمكتب والمركب، والحضر والسفر، فهو في كل أحواله يُربي ويوجه، ويعظ ويرشد، ويعلم ويفتي، ويدعو ويُفَقِّه”.
تماسك عجيب وتمسك متين
ثم يستعرض ابن حميد جوانب مختلفة طبعت حياة ابن باز، أظهرت تميزه وعبقريته، فيقول: “جانب من جوانب عبقرية الشيخ وتميزه يتمثل في الحياة الزاهدة الورعة التي أخذ بها نفسه، لك أن تتخيل رجلاً يعيش فيما عهد من حياته أكثر من سبعين عاماً – لم يُحسب من ذلك سنوات الطفولة والصبا- على حالٍ واحدةٍ لا تتغير من هذا التماسك العجيب والتمسك المتين، والموقف الحازم الصارم من الدنيا، لم يرفعه في أعين الناس إلا صِغَرُ الدنيا في عينه، هذه الدنيا التي لا تُذكَرُ في مجلسه قط، فكل مجلسه قال الله عز شأنه…، وقال رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وقال أهل العلم، قراءة، وحديثاً، وشرحاً، وبسطاً، ووعظاً، وتوجيهاً، واشتغالاً بهموم المسلمين العامة والخاصة، يحل مشكلاتهم، ويسعى في حوائجهم، ويشفع فيما لا يستطيعه بنفسه، تتجلى عبقرية هذا الإمام في الحياة التي عاشها في منزله بين المساكين والغرباء، والتي لم تُعهَد لأحد مثله في هذا العصر، يستقبلهم ويحتفي بهم، ويُدنِيهم، ويتفهم مشكلاتهم، ثم يسعى في حلها مهما كان نوعها، ثم يلتفُ كُل من حضر حول مائدة الشيخ ليلتقي على هذه المائدة المستديرة الغني والفقير، والوجيه والوضيع، والكبير والصغير”.
لم يُعرف عنه كلمة نابية
يزيد ابن حميد: “كما تتجلى عبقرية الشيخ رحمه الله في هذا الاحترام الكبير والود العظيم الذي احتفظ به مع الموافق والمخالف، لم يُعرَف عنه كلمة نابية، ولم يُعهَد له لفظ جارحٌ، مع كثرة رسائله ومخاطباته، ومكاتبته، ومقابلاته، فهو رادٌّ ومردودٌ عليه، مُتَصَدٍّ لبيان الحق، لا يسكت على باطلٍ، ولكنه كان محافظاً على سَمتِه ووقاره وعفته وأدبه في قلمه ولسانه؛ لأنه يقرن العلم بالعمل، فعنده ورعٌ حاجز، وتقوى حافظة، ولا نُزكيه على الله، لقد أبقى اللهُ لهُ الحُبَّ والوِدَ في قلوب الناس في احترامٍ يندُر أن يكون له مثيلٌ، وما ذلك بعد توفيق الله إلَّا لصحَة المعتقد، والسلامة من الهوى، والحرص الشديد على تحري الحق، مع ما انطوت عليه نفسه من حب الخير للجميع، بل حب إصابة الحق للجميع”.
ثم ينتقل الشيخ ابن حميد لاستعراض ملمح آخر من ملامح عبقرية الشيخ ابن باز، فيقول: “تتجلى عبقرية الفقيد رحمه الله، فيما رسمه وطبَّقه من علاقة متينة حكيمة وقورة بين العلماء والدولة، والراعي والرعية، الدولة وفقها الله وسددها تعرف علمه وفضله وغايته وحكمته، وهو يعرض وظيفته ومنزلته. هبَّت عواصفٌ، وهدرت بحارٌ، وهاجت أمواجٌ، فكان هو – بإذن الله- الصاري المُمسك بشراع السفينة، نحسبُ أن الله قد وفَّقه وألهمه، لما علم من صلاح نيته، وصحة مسلكه، وصدق نصيحته، ونفاذ بصيرته”.
شيخٌ يزكو شكره ويعلو ذكره
ويختم ابن حميد حديثه المؤثر في رثاء ابن باز، مُلَخِصاً شخصيته، بقوله:
“هذا هو الشيخُ الذي يَزكُو شُكره، ويعلُو عن أهلِ العصرِ ذِكْره، ويعني الأمةَ أَثره. الصنيعةُ عنده واقعةٌ موقِعها، والفضيلَةُ إليهِ سالِكَةٌ طريقها، إن أَوجَزَ في الموعظة كان شافياً، وإن أطنَبَ كان مُذَكِّراً، وإن نَبَّهَ إلى ملاحظة فهو المُؤَدَّبُ المُؤَدِّبُ، وإن أسهم في التوجيه فهو المُفهِمُ، واضِحُ البيانِ، صادِقُ الخَبَرِ، بَحرُ العُلُومِ، نُزهَةُ المُتَوَسِمين، خَصِيمُ الباطلِ، نَصِيرُ الحَقِ، سِراجٌ يَستضِيءُ به السالكونَ، لَيِّنُ العَرِيكَةِ، أَلِيفٌ مَألُوفٌ، يرفَعُهُ فِي أَعيُنِ النَّاسِ صِغَرُ الدنيا فِي عَينِهِ، لا يَتطَلَعُ إلى مَا لا يَجِدُ، ولا يُكثِرُ إذا وَجَدَ، مُتَحَكِّمٌ في سُلطانِ شَهوَتِهِ، لا تَدعُوهُ رِيبَةٌ، ولا يَستَخِفُهُ هَوَى، خَارجٌ من سُلطانِ لِسانِهِ، لا يَتَكَلَمُ بِما لا يَعلَم، ولا يُمارِي فيما يَعلَم، خَارِجٌ من سُلطانِ الجَهَالَةِ، لا يُقدِمُ إلا عَلَى غَلَبَةِ ظَنٍّ في مَنفَعَةٍ، لا يُرَى إلا مُتَوَاضِعَاً، وإذا جَدَّ الجَدُّ فهو القوي الغيور، لا يُشارِكُ في مِرَاءٍ، ولا يَلُومُ إذا وَجَدَ للعُذرِ سبيلاً، لم يُرَ مُتَبَرِّمَاً، ولا مُتَسَخِطاً، ولا شاكياً، ولا مُتَشَهِّياً، لا يَخُصُ نفسهُ باهتِمَامٍ دونَ إِخوانه، واسِعُ الشفَاعَةِ، طويلُ يَدِ العَونِ”.
ولله ما أحسنَ مرثية الشيخ صالح بن حميد، في الشيخ عبدالعزيز بن باز، رحمه الله،
فيصح أن نقول فيها بيت أبي تمام:
هي السّحرُ الحلالُ لمُجْتَلِيه ولم أرَ قبلها سِحْراً حَلاَلا
قصة التعرف على التحفة
كتاب الشيخ ابن باز: (تحفة الإخوان بتراجم بعض الأعيان)، صدرت طبعته الأولى عام 1430 هـ، (2009 م)، وهو من آخر كتب الشيخ طباعة.
ولوقوعي على الكتاب قصة، إذ كنت قبل أسبوع أقرأ في رحلة الشيخ المُحَدِّث؛ أحمد محمد شاكر، (1330– 1377 هـ) إلى الحجاز ونجد، في عام 1368 هـ، (1949 م)، وهي رحلة قيَدها العلامة أحمد شاكر في صفحات قليلة على أهميتها، وهمّشَ المحقق الأستاذ أشرف عبدالمقصود على الكتاب بهوامش تزيد على صفحات المتن يقيناً، لكنها لتميزها وجودتها لا يغني واحدها عن شقيقه. فلم يمر في الكتاب عَلَمٌ إلا ترجم له المحقق، وأجزم بأن كل من قرأ الكتاب ظفر بما لم يعرفه من قبل، وبخاصة عن الشخصيات السعودية التي كتب عنها الشيخ شاكر وترجم لها المحقق.
ولفت نظري أن بين الشخصيات الواردة في الكتاب شخصية الأستاذ عبدالوهاب عزام (1312 – 1378 هـ)، (1894 – 1959 م)، وشدني قول المحقق في ترجمته بالهامش رقم (1)، ص 87: “قيَّدَ الشيخ ابن باز وفاته بقوله: “توفي الشيخ عبدالوهاب العزام مدير جامعة الملك سعود بالرياض في يوم الأحد ثامن رجب من سنة 1378هـ على إثر سكتة قلبية”. (تحفة الإخوان بتراجم بعض الأعيان) لابن باز، ص 33″. وهو أول موضع أجد فيه تحديد يوم وفاة عزام، التي أبحث عن تفصيلها منذ أسابيع! وما هو كتاب التراجم هذا، الذي ألفه الشيخ ابن باز، والذي يبدو أنه يترجم فيه للمعاصرين، إذ ترجم لعزام، كما قيَّد يوم وفاته؟!
ذهبت إلى آخر كتاب رحلة العلامة شاكر، وفرحت لمَّا وجدت في صفحة 157: المصادر والمراجع، وصنفها المحقق على أسماء المؤلفين، فلم أجد في حرفي (ب) باز، ولا (ع) عبدالعزيز، أثراً لـ (تحفة الإخوان). فذهبت إلى الكشَّافات، وفي كشّاف الأعلام: عبدالوهاب عزام بك: 71، 76. ولا أثر له في الصفحتين المذكورتين في الكشاف، بل نشرت صورته في ص 86، واسمه (عبدالوهاب بك عزام)، في النص، ثم ترجمته في هامش رقم (1)، في ص 87، حيث ذكر كتاب الشيخ ابن باز، كما لم يرد (تحفة الإخوان) في كشّاف الكتب الواردة. ويبدو أن الكشّاف مختص في كشف ما ورد في نص كتاب الرحلة لا في هوامشها، لكن كتاب الشيخ ابن باز من المصادر والمراجع للتحقيق فيستغرب عدم ذكره بينها. على أن كتاباً تحقيقه بهوامش مفيدة حجمها يفوق حجم النص، من المهم تكشيف هوامشه، ويمكن للتفريق بين النص والهامش، التزاماً بأصول التحقيق، وعدم تدخل المحقق في نص الكتاب، وضع ما يبين هذا الفارق في الكشّاف، كأن يكون رقم العزو للنص أكبر من رقم العزو للهامش مثلاً.
وحرصي على الوقوف على تاريخ وفاة عبدالوهاب عزام، سببه قصة أبينها للقارئ الكريم…
كنت أبحث موضوع التحاق الشيخ حمد الجاسر، بمجمع اللغة العربية بالقاهرة، إثر صدور قرار رئاسي، بانضمامه للمجمع في أواخر عام 1958، ثم أرسل لي الصديق الأستاذ أحمد العساف، صورة كلمتي الشيخ الجاسر، والأستاذ عبدالوهاب عزام، في حفل المجمع بانضمام الجاسر للمجمع، والتي ألقيت في 5 يناير 1959. ولما ذهبت للبحث عن ترجمة عزام، وجدت الزركلي في (الأعلام)، وكحالة في (معجم المؤلفين)، ذكرا أنه توفي في العام 1959، دون تحديد اليوم، ولا عجب فذكر اليوم ليس من منهجهما. فوجئت بأن موقع (ويكيبيديا) قال إن وفاة عزام في 1 يناير وهو خطأ بالتأكيد، فلا يمكن أن يكون الرجل ألقى كلمة مجمع اللغة العربية بالقاهرة في الترحيب بانضمام حمد الجاسر عضواً بالمجمع في الخامس من يناير، وتوفي قبل أن يلقي الكلمة بأربعة أيام!
وكان عبدالوهاب عزام، توفي في بيته بالرياض، حيث كان يمارس وظيفته مديرا لجامعة الملك سعود، (لم تزد المدة التي عمل فيها عزام مديراً للجامعة عن سنة وبضعة أشهر)، وذكرت التفاصيل، أن زوجة عزام صنعت له شراب زهورات وقدمته إليه، وذهبت لتصلي المغرب، فلما عادت إليه، وجدته يفارق الحياة، رحمة الله عليه.
وفي موقع انترنت آخر، قيل إن وفاة عزام كانت في الخامس من يناير! وهو وَهمٌ ثانٍ، فيستحيل أن يُلقي الراحل كلمة في مجمع اللغة العربية بالقاهرة، ويعود إلى الرياض في نفس اليوم ليموت فيه!
وقال الصديق الدكتور عبدالله المدني، في ترجمته للدكتور عزام، إن وفاته كانت بمنزله بالرياض، في السادس من يناير، وهو بعيدٌ، ففي 1959 لم يكن الطيران متوفرا بين المدن بكثافة مثل اليوم، ليتمكن الراحل من العودة بهذه السرعة من القاهرة إلى الرياض.
وفي كتاب (مشاهير علماء نجد وغيرهم)، لعبدالرحمن بن عبداللطيف بن عبدالله آل الشيخ، ط 2، 1394هـ، قال المؤلف، عن وفاة عزام: “فاضت روحه قبيل مغرب يوم الأحد، عاشر رجب سنة 1378هـ، 18 يناير سنة 1959 م”. وترجمة عزام في الكتاب من إضافات المؤلف في الطبعة الثانية، وليس في الطبعة الأولى، فتنبه.
ويظهر أن الوفاة كانت في 18 يناير 1959 م، يوم الأحد، لكن خلافاً في تحديد هل كان الأحد، هو الثامن من رجب، كما في كتاب الشيخ ابن باز، أم هو العاشر من رجب كما في (مشاهير علماء نجد)، والغريب ما وجدته بعد بحث في مواقع التقويم، وهو أن الثامن عشر من يناير، كان يوم الأحد، الموافق تاسع رجب 1378 هـ.
المقدمة والمصادر
قال الشيخ ابن باز في مقدمة (تحفة الإخوان): “هذا موجز في تراجِم بعض الأعيان من العلماء وغيرهم؛ لقصد الفائدة والتذكير والانتفاع بأخبارهم وسيرتهم الطيبة، ومعرفة أزمانهم ومؤلفاتهم وما إلى ذلك من الفوائد”. وفي الأصل جاء في الأصل ما نصه: “يُكتب في هذا الدفتر والأجراء التي بعده تراجم بعض الأعيان من علماء وملوك وخلفاء وعبَّاد وشعراء؛ وما يلحق بهم من الأعيان؛ على سبيل الإيجاز، مع العناية بالمولد والوفاة”.
ويترجم الكتاب لشخصيات متقدمة وأخرى معاصرة، ويعتمد مصادر كتب المتقدمين مثل: (فتح الباري)، و(لسان الميزان)، لابن حجر، و(المتروكين)، ابن حبان، و(تذكرة الحفاظ)، للذهبي، و(البداية والنهاية)، لابن كثير، و(زاد المعاد)، لابن القيم، و(اللباب في تهذيب الأنساب)، لابن الأثير الجزري، و(فتح المغيث)، و(الضوء اللامع لأهل القرن التاسع)، للسخاوي، و(طبقات الشافعية)، للسبكي، و(وفيات الأعيان)، لابن خلكان، و(بغية الملتمس في تاريخ رجال أهل الأندلس)، لابن عميرة الظبي، و(الفوائد البهية في تراجم الحنفية)، للكنوي، وغيرها.
واعتمد ابن باز مصادر له بعض كتب المعاصرين، مثل: (الأعلام)، للزِّرِكْلي، مُثبِتَاً بالشكل النطق الصحيح لعائلة الزركلي، كما ينقل عن عمر رضا كَحّالة في كتابه: (معجم المؤلفين).
ابن باز يكتب تاريخ السعودية
وكتب المؤلف عن أحداث الدولة السعودية الثانية، وما حدث من مواجهات أدت لسقوطها، ثم قيام الدولة السعودية الثالثة على يد الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن الفيصل، بداية بفتح الرياض، ثم وقائع مواجهاته مع عبدالعزيز بن متعب الرشيد، حتى انتصار الملك عبدالعزيز، وكتابة الشيخ عبدالعزيز بن باز لهذه الأحداث مهمة، وهو نصٌ نادر لعالم شرعي بارز يتحدث عن تاريخ سياسي بتفصيل، ومرجع كتابته، كما قال، ما حدثه به بعض الثقات. والمصدر السماعي مهم، فهو إما أن يثبت معلومة لم تذكر من قبل، أو يُثبت تلقي الراوي لها.
أول إشارة لترجمة معاصرة، كتبها الشيخ ابن باز، جاءت في الصفحة 23، وفيها: “توفي الأمير العابد الفاضل محمد بن فيصل بن تركي -عمُّ الملك عبدالعزيز- في سنة (1311 هـ)، كان شجاعاً فاضلاً عابداً”.
ثم ذكر ما حدث بين عبدالله بن فيصل وأخيه سعود بن فيصل من وقعة جودة عام (1287هـ)، وما حدث فيها من أمور عظيمة. ووفاة سعود بن فيصل 1291هـ، “حال كونه والياً على الرياض وملكاً على المملكة السعودية، وعبدالله المذكور حينذاك مُختَفٍ؛ خوفاً من أخيه سعود، وذلك بعد وقعة الجِزْعة المعروفة سنة (1289 هـ). ثم رجع عبدالله إلى المُلك بعد موت أخيه سعود، وجرى بينه وبين أبناء أخيه سعود وحشة وفِتَن، ثم قُتِل أبناء سعود الثلاثة محمد وعبدالله وسعد في ذي الحجة سنة خمس من القرن الرابع عشر، قتلهم محمد بن رشيد بواسطة سرية أرسلها إليهم في الخرج، ثم نقل عمهم عبدالله بن فيصل من الرياض إلى حائل في الشهر المذكور، أو في أول سنة ست، واستقل لابن رشيد المُلك في نجد من هذا العام؛ إلى أن مات سنة خمس عشرة. ثم بعد وفاته في سنة (1315 هـ) استقلَّ بالأمر بعده ابن أخيه عبدالعزيز بن متعب بن عبدالله بن علي الرشيد. وفي شوال (1319 هـ) استولى الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن الفيصل على الرياض، وقتل عاملها من جهة عبدالعزيز المذكور، وهو عجلان بن محمد، واستقلَّ الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن بالإمرة على الرياض وملحقاتها. ثم قامت الحرب على ساق بينه وبين عبدالعزيز بن رشيد المذكور، حتى قُتل عبدالعزيز بن رشيد في عام (1324 هـ)، في محلٍّ يُقال له: “روضة مُهَنّا”، في منطقة القصيم، وقام بالأمر بعد عبدالعزيز بن رشيد ابنه سعود، إلى أن قُتل على يد بعض أقاربه في عام (1338 هـ)، كما حدثني بذلك بعض الثقات”. (ص 23، 24، 25).
أحداث سياسية* والدة الملك سعود
ويُؤَرِّخ الشيخ ابن باز لبعض الأحداث السياسية في كتابه، منها ثورة الجيش بقيادة السلَّال على الإمامة بصنعاء، ومساعدة المصريين للثوار. ومنه شبه الانقلاب في نيجيريا وحدث في رمضان 1385 هـ، الذي “قُتل فيه الزعيم الإسلامي القائم بالدعوة إلى الله سبحانه الحاج أحمدو بِلّلو، رئيس وزراء شمالي نيجيريا”.
وأَرَّخ المصنف لوفاة والدة الملك سعود، فقال: “في يوم السبت الموافق 16 صفر من عام 1389 هجرية توفيت وضحى بنت محمد بن عريعر الخالدية من قبيلة بني خالد، عن عمر يناهز التسعين أو يزيد على ذلك، وكنيتها أم تركي، وتُكني أيضاً: أم سعود. وتركي وسعود المذكوران هما أبناء الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل فيصل آل سعود، وتركي المذكور هو الأكبر، وكان رجلاً صالحاً، وقد توفِّي في حياة أبيه في عام 1337 هـ، وخلف ابنه فيصل بن تركي، وبنتاً واحدة، رحمه الله. أما سعود فهو ملك المملكة العربية السعودية سابقاً، وقد توفِّي قبل والدته المذكورة بشهرين وأيام، كما ذكرنا وفاته في هذا الدفتر وذلك في 6 ذي الحجة 1388 هـ. وكانت وضحى المذكورة معروفة بالعبادة والصلاح وكثرة الصدقات، فنسأل الله لها المغفرة والرحمة. تكميل: صُلِّي عليها في جامع الرياض، وحضر الصلاة عليها الملك فيصل بن عبدالعزيز، وجمع غفير من آل سعود وغيرهم”.
ووثَّق المؤلف أمرين ملكيين أحدهما بتعيين الأمير فهد بن سعد بن عبدالرحمن الفيصل أميراً لمنطقة حائل في آخر صفر أو أول ربيع أول من عام 1391هـ، وثانيهما بتعيين الأمير خالد الفيصل أميراً لمنطقة أبها (عسير).
وفي الكتاب تفصيل لأحداث وفاة الملك فيصل، وتاريخ وفاة الملك خالد.
تراجم المشايخ المعاصرين
كما ترجم الشيخ ابن باز لكثير من معاصريه، مثل: الشيخ حمد بن فارس، وذكر أنه من قبيلة سبيع، والشيخ القاضي عبدالعزيز بن بشر، والشيخ القاضي عبدالرحمن بن عُودان، والشيخ القاضي عبدالله بن عبدالوهاب بن زاحم، رئيس محكمة المدينة المنورة، وذكر أنه من بقوم عتيبة، والشيخ عبدالعزيز بن صالح آل صالح، الذي خلف ابن زاحم في رئاسة المحكمة، وإمام وخطيب المسجد النبوي، مشيراً إلى أنه من قبيلة عنزة. وتحدث عن الشيخ حامد الفقي رئيس جماعة أنصار السنة بالقاهرة، مُثنياً عليه، لكنه قال: “وله هفوات شديدة في الفقه، وأشياء في الأصول، فنسأل الله أن يعاملنا وإياه والمسلمين بعفوه ولطفه”.
وتوسع ابن باز في ترجمة شيخه المفتي الأول، الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ، وذكر تاريخ ما أصابه من أمراض، حتى وفاته رحمه الله. وترجم للشيخ محمد الأمين الشنقيطي، والشيخ عبدالله بن محمد بن حميد، والشيخ عبدالملك بن إبراهيم آل الشيخ.
وفي ترجمة المؤلف للشيخ محمد بن علي الحركان، ذكر أنه كان “عالماً فقيهاً وافر العقل، تولَّى القضاء في العُلا، ثم في جدة، وكان رئيس محكمتها مدة طويلة، وكان محمود السيرة، قويّاً في الأحكام، ثم عُيِّنَ وزيراً للعدل في عام 1390 هـ، ثم عُزِل من وزارة العدل في شوال من عام 1395 هـ”.
وفي الكتاب ذِكرُ تاريخ وفاة كثيرين، منهم:
– الشيخ سليمان بن حمدان.
– الأمير محمد بن عبدالعزيز بن سعود بن فيصل آل سعود.
– الشيخ صالح بن علي الناصر.
– الدكتور محمد تقي الدين بن عبدالقادر الهلالي الحسني.
– الشيخ إبراهيم بن عبدالرحمن الحصين.
– الشيخ عبدالرزاق عفيفي، وترجم له.
– الشيخ صالح الخريصي.
– الشيخ محمد الحامد، إمام جامع السلطان بحماة.
– رئيس الهند ذاكر حسين.
– الشيخ إبراهيم بن عبدالله بن إبراهيم الشنقيطي.
– الشيخ عبدالله بن علي أبو يابس.
– الشيخ عبدالعزيز بن محمد الشثري المشهور بأبي حبيب، وترجم له.
– الشيخ عبدالعزيز بن عبدالرحمن الحصين.
– الشيخ عبدالرحمن بن عبدالعزيز الحصين، وترجم له.
– الأستاذ سيّد قطب.
– الإمام أحمد بن يحيى بن حميد الدين، وذكر ما حصل بعد موته في اليمن من أحداث.
– الأمير سعود الكبير، وغيرهم.
تراجِم أم تراجُم؟!
وعلى ذكر الحديث عن التراجم، من اللطائف: التفريق بين التراجِم (بكسر الجيم)، والتراجُم (بضم الجيم).
والتراجُم (بضم الجيم)، هي رجم بعض الناس بعضاً بالحجارة، والتراجِم (بكسر الجيم)، جمع ترجمة، والترجمة هي السيرة.