والحق أني لم أجد فراغاً العام الماضي، إلا هربت إلى مكتبتي، وأغلقت الباب. تارة أدخل في تعريفات التسامح، وحيناً أجدُني غارقاً في شروح أبي الطيب وتجارب الأقوام، ومن ثم شُغلت زمناً بالعفو، حتى وجدته مختلفاً عن التسامح، ومن ثم مرت الأيام، وخالفت نفسي، حتى آمنت بأن الزمن هو الفاصل بين الفضيلتين، فقد يكون العفو بعد حين، وقد يكون في التو والحين.
ثم خطر لي أن التسامح، تجربة توصف بها المجتمعات، أكثر من العفو الذي يكون شخصياً بحتاً، وربما أدَّى اتصاف مجموع الأفراد بفضيلة العفو، إلى تطور المفهوم، كي يظهر مفهوم أخضر الأغصان زكي الرائحة، يدعى التسامح، وما زلت بين هذا وذاك حتى عزمت على تأليف كتاب في ذلك، ولعله يزيد من النقاش، ويضيف شيئاً نافعاً.
وهذا الباب عجيب عجيب؛ فقد تعلمت دائماً عن الموضوعات التي بحثت فيها بعد صدور أي كتاب لي أكثر مما علمت قبل صدوره، ففي السير الذاتية – وجهدي فيها جهد المقل – وصلتني كثير الرسائل بعد أن طُبع العمل وخرج للنور عن المكتوب عنه، وعن البلدان فقد أكرمني اليمنيون بقصص وحب أكثر بعد «جوهرة الفحام»، وهأنذا أعترف بقصور اليد على أمل أن يكون كتابي القادم المطبوع قريباً دعوة مفتوحة لحوار المعاني في باب أحبه وانشغلت به كثيراً، باب التسامح أيها الكرام.
وها هو أبو العتاهية يشاركني فردية العفو قبل اتساع التسامح فيخاطب صاحبيه قائلاً:
خليليَّ إِن لم يغتفرْ كُلُّ واحد
عثارَ أخيه منكما فترافضا
وما يلبثُ الحيانِ إِن لم يجوِّزوا
كثيراً من المكروه أن يتباغضا
خليلي بابُ الفَضْل أن تتواهبا
كما أن بابَ النصِ أن تتعارضا
وقد يتسع الحيان فنراهما بلدين على خصام قديم، ويتسع باب الفضل حتى تدخله الأمم وتوصف به الشعوب، ولم أرَ أنموذجاً قومياً يستحق صفة التسامح مثلما رأيت عند اليابانيين، فكلّنا يعرف أن اليابان اتسعت وتجبَّرت حتى احتلت شمال الصين والجزر الكورية، ولم تتوقف عن التوسع حتى ألقيت عليها القنبلتان النوويتان، لكن لكل أمة درسها الذي تخرج به بعد الخسارات الكبيرة، أستطع القول إن اليابان حققت أهم انتصار بانتصارها على نفسها لا على الآخرين، وهذا لعمري هو الانتصار الحقيقي لكل إنسان ولكل مجتمع.
بحث اليابانيون عن أقوى الأسلحة لبناء مجتمعهم بعد الحرب فقرروا العودة إلى العصر الذي سبق تضخم الأنا اليابانية والعزلة عن العالم؛ فأخذوا بشعار قليل الكلمات سحري التأثير: «العلوم غربية لكن الروح يابانية»، وأصبحت معادلة اليابان الحديثة مرتكزة على أن اجتماع العلم مع الأخلاق والعمل يساوي النهضة، فعادوا لعصر «الإيدو»، وإيدو – لمن يريد الدهشة – اسم لأحد خلجان اليابان، وهو الذي بات يسمى اليوم طوكيو العاصمة!
ولا غرابة فقد كان عصر الإيدو (1603 – 1868) عصر التطور والاستقرار والازدهار، يكفي أن شعاره كان: «لن يكون هناك طفل جائع، أو قرية جاهلة أو أسرة غير متعلمة في جميع أرجاء اليابان»، وبثلث مساحة مصر – مساحة اليابان هي 377.930 كيلومتراً مربعاً – وبموارد طبيعية شحيحة وزلازل وبراكين، وثلث هذه المساحة فقط صالح لسكنى البشر؛ فالجبال والغابات التي لا تسكن ولا تزرع هي ثلثا مساحة اليابان التي تدهش العالم الجديد منذ سنين.
تبدو المعادلة سهلة، لكن صعبة التطبيق؛ وتخفيفاً للشعار السابق اتفق اليابانيون على تجويد التعلم والتعلم من الغير، فالحوار أساسي كل يوم في الشركات اليابانية، وروح الفرد هي أغنية المجموعة، فالمصنع بيت الياباني والشركة هي أمه، وقد يلقي بنفسه إذا اقتربت الهزيمة ولم يحقق الهدف الذي يجعل الجميع سعداء.
وسواء كانت تعاليم الكونفوشيوسية أو عصر ميجي أو محاولة التخلص من شعور الإمبريالية والأذى الذي شوّه صورة اليابان الخارجية هي تبرير الباحثين عن فهم شيوع قيمة التسامح حد جعلها الصفة الأولى للشعب الياباني، إلا أن المحصلة النهائية كانت وصفة نشر قيم السلام والتسامح والانفتاح على العالم، حتى إن اليابان اعتذرت علنياً غير مرة لضحاياها وقدمت التعويضات كواجب أخلاقي تفرضه قيمة التسامح، بوصفها فعلاً لا شعاراً جافاً يقال لاستدرار احترام الآخر.
الطريف أن التربية في اليابان ليست محصورة في البيت، بل إن مادة الأخلاق إلزامية في المدارس، وتتضمن تعليم النشء أدق التفاصيل ابتداء بدرجة الصوت إلى زاوية الانحناء والكلمات التي يجب اختيارها عند مخاطبة الآخرين، وصولاً إلى تنظيف الفصل الذي يتحول ليصبح تنظيف الشركة بعد انتهاء ساعات الدوام، مع مراقبة عالية للنفس حد أن تعبير الياباني عن مشاعره صعب جداً؛ مخافة أن تصل ذبذبات سلبية لمن يشاركون البيئة المحيطة.
فلا عجب إذن أن تصنف اليابان الأولى عالمياً في «فن العيش»، تأمل – عزيزي القارئ – تعبير «فن العيش»، فهو يعني الذوق العام في التعامل مع الآخرين، ولا يمنع هذا المركز المتقدم أهله من الصدق والتصالح حين يقال إن اعتزازهم القومي والوطني يجعلهم قلقين من اللافتات إن كتبت بغير اليابانية، ولعل ذلك عائد إلى النصف الثاني من شعار العلوم والروح، لكن القوم لا يعدمون حلولاً؛ فقد أعلنت شركة yamaha اليابانية عن إطلاق تطبيق لهواتف السياح يساعدهم على فهم الإعلانات التجارية، وعدم الضياع في محطات القطارات والمتنزهات القومية.
لن تهزم أمة أختها بالحرب، لكن طريق النهضة تعبر من الروح إلى المدرسة؛ فالطفل الذي يتلقى خلاصة الخسارات في المنهج الدراسي، كي يراها في وجه المعلم الذي لا يريد أن تتكرر مأساة جيل ذهب خارج الحدود ليحارب العالم، وعاد مثخناً بجراح الروح ليعلم أن السلام الداخلي يبدأ بالاعتذار وتعويض الآخرين، ومن ثم يكبر ليصبح تصالحاً في التعليم وتقديراً للقيمة التي ستجعلك أنموذجاً يسافر الآخرون للتعلم منه، ولو بتطبيق على هاتف سائح يريد أن يفهم صمت التسامح بتقنية يابانية.
جميع الحقوق محفوظة 2019