… ولا أصعب من توصيف الكرم، لمن لم يره بقلبه، إلا التعذر لمن تعلم أن مرضه الكرم، وأن تلفه العطاء، وعلة نفسِه أن تقصر يده عن معروف لمن يستحق.
سألني صديق ذات نقاش: أضروري أن يمر الشاعر بالفقر أو الأسى ليستطيع بلغته حمل الشعور وإن لم يجربه؟! لا أدّعي أني أحمل جواباً شافياً، لكني استشهدت بالكريم الذي لم يرَ الفقر يوماً، لكن إحساسه بحاجة المحتاج وتلبيته لحاجته، عوضت مرارة المرور بالتجربة، ولا أزعم سبقاً، فقد جعل الله في محكم تنزيله، العين البصيرة للحاجة تكريماً لمبصرها عن الجهل، فقال تعالى: «يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف»، فوصف الذي فات عليه تعفف الفقير بالجاهل، ونقيض الجهل العلم، ولعمري إن معرفة حاجة السائل قبل سؤله، فطنة لا يُؤَتّاها إلا ذو علم بخبايا النفوس وحاجاتها.
وقد يبدأ الشعراء قصائدهم بالشكوى والاعتذار، وهو قليل، لكن شاهداً واحداً يكفي، فكيف إذا كان مستفيضاً، يقال ويعاد! ومن حقوق الأبناء على الآباء، إرشادهم مبكراً إلى هذا النوع من الدراسة، التي لا تنتهي بأمر الانصراف، فالشعر ديوان العرب، وكتاب حياتهم، وفيه من الجمال، ما يمكن أن يكون مرشداً لحياة راقية.
عاش صاحبُنا حياتَه مقنعاً أو متقنعاً، ولست مع القائلين بأن جماله سبب تقنّعه مدى الحياة، كما ذهب لذلك الأصفهاني في «الأغاني»، ولا بمصدقٍ أن كريماً، سليل ملك، وصاحب سيف، يخشى العين فيتقنع، لأنه يمرض كلما نظر حسنَه إنسانٌ، لكني أميل لرأي الجاحظ، حين اعتبر تقنعه استعداداً دائماً للحرب.
ولا أدقّ وصفاً، لكرم صاحبنا، من قولهم: «كان متخرقاً في عطاياه، لا يرد سائلاً عن شيء، حتى أتلف كل ما خلفه أبوه من مال، فاستعلى عليه بنو عمه بأموالهم وجاههم، وقد خطب إليهم ابنة عمه فردّوه»، وقد بالغوا في اللؤم ورب البيت، فمَن يردُّ كريماً، سخي اليدين مثله، وهو ما أوجع صاحبنا المتقنع وضاقت عليه الدنيا، حتى عاد يسلّي نفسه ويعذر نفسه بنفسه، وقد صيَّر في داليّته الشهيرة كلَّ عربي، محبٍّ للشعر، شاهداً له على بني عمه، الذين ترفَّع عن شتمهم والقدح فيهم، على كل ما فعلوه به.
يُعَاتِبُنِي فِي الدَّيْنِ قَوْمِي وَإِنَّمَــا
دُيُونِي فِي أَشْيَاءَ تُكْسِبُهُمْ حَمْـدَا
سماحة نفس صاحبنا، وكرم يديه، صيَّراه في قفص الاتهام، مع نفر من الكرام: أشهرهم حاتم طيء، وأجملهم عروة بن الورد. وما عتاب ماوية لحاتم بأقل من جفاء بني عم المقنع له، فالتهمة ذات التهمة، والمرافعة التي يتصدى لها المقنع، معللة بأسباب حاتم، ولعل حاتم سبق إلى شرف المنهج، وتبوأ مقعداً متقدماً جعله أشهر المؤمنين بفلسفة الكرم خُلقاً، والجود عطاءً وسجية، ورفع الحيف عن المحتاج طبعاً.
والمقنع الكندي، إذ يشكو عتاب قومه، يتفهم -بسعة صدره- قصور نفوسهم، عن إدراك عظمة فعله، لذلك فهو مستمر في شراء الحمد النفيس، والعجيب، أن شعره ليس مقتصراً على هذه السجية، وحدها، فشعره -على قلة ما وصلنا- فصول في القناعة، والتوكل، والصبر، والحياء، والسخاء، والتزام الصدق، وتحذيرٌ من أمراض القلوب: الكبر، والحسد، والجبن، وسوء الظن بالله وبالخَلق، ولا عجب أن يَكمل عقله وخلقه، فهو سليل مجد، كابراً عن كابر، وقد ضحّى بملك أبيه، مقابل أن يستمر في سخائه:
أَسُدُّ بِهِ مَا قَدْ أَخَلُّوا وَضَيَّعُوا
ثُغُورَ حُقُوقٍ مَا أَطَاقوا لَهَا سَدَّا
إنه لا يشتكي عتاب بني العمومة، لكنه يرى كرمه واجباً وثغراً عليهم سده، لكنهم ضيّعوه، وهو -بكل بساطة- يقوم بواجب حماية الثغر، وحفظ الاسم، وإدامة المعروف، كي لا ينقطع. ليست شكوى جفوة، بل استعظام هول التفريط في الواجبات.
ومن فرط قناعة المقنع بعظمة الكرم ودنو البخل، لم يتوانَ عن وعظ البخلاء بكرم من يحب لهم الخير، فقال:
إنِّي أُحَرِّضُ أَهْلَ الْبُخْلِ كُلَّهُمُ
لَوْ كَانَ يَنْفَعُ أَهْلَ الْبُخْلِ تَحْرِيضِي
مَا قَلَّ مَالِي إِلاَّ زَادَنِي كَرَماً
حَتَّى يَكُونَ بِرِزْقِ اللَّهِ تَعْوِيضِي
وَالْمَالُ يَرْفَعُ مَنْ لَوْلاَ دَرَاهِمُهُ
أَمْسَى يُقَلِّبُ فِينَا طَرْفَ مَخْفُوضِ
لَنْ تَخْرُجَ البِيضُ عَفْواً مِنْ أَكُفِّهِمُ
إِلاَّ عَلَى وَجَعٍ مِنْهُمْ وَتَمْرِيضِ
كَأَنَّهَا مِــــنْ جُلُودِ الْبَاخِلِينَ بِهَـا
عِنْدَ النَّوَائِبِ تُحْذَى بِالْمَقَارِيضِ
لكنّ الذي يأمله المقنع الكندي عسير على من لم يجربوا حلاوة العطاء، ولا متعة السخاء، فهو صاحب فرس عظيم، عند باب بيته، وقد أخدم الفرسَ خادماً، وحين يدلف الكرام إلى بيته، فإن وصف مائدته لا يحمله حرفي، لكني أضعه شعراً، ليقف القارئ الكريم على ذلك بنفسه:
وَفِي جَفْنَة مَا يُغْلَقُ الْبَـابُ دُونَهَـا
مُكَلَّلَـة لَحْماً مُدَفَّقَـة ثَــرْدَا
وَفِي فَرَسٍ نَهْدٍ عَتِيـقٍ جَعَلْتُــهُ
حِجَاباً لِبَيْتِي ثُمَّ أَخْدَمْتُهُ عَبْــدَا
دعْك من طعام ضيفه، بل انظر لتكريمه حتى لدابّته، وهو سيد في كل موضع، عدا أن ينزل به كريم مثله، فإنه يصبح قيد طبعه الذي قيّد نفسه به، ففي الداليّة أيضاً هذا البيت الذي يحفظه كثيرون من دون أن يتذكروا أنه من جملة أبيات -عبدِ الضيف، وذخر الأهلين- المقنع الكندي:
وَإِنِّي لَعَبْدُ الضَّيْفِ مَا دَامَ ثَاوِياً
ومَا شِيمَة لِي غَيْرَهَا تُشْبِهُ الْعَبْدَا
وهو مستمر في مرافعته، التي لا يملك حرٌّ عليها عتاباً، وبخاصة وقد جمعت إلى عظمة المعنى، جزالة اللفظ، وجمال السبك.
الكندي، الحضرمي، المقنع، رجل بلغ من خصال الكبار مبلغاً، يحق به لكل حضرمي أن يفتخر به.
جميع الحقوق محفوظة 2019