بعد أكثرَ من ألف عامٍ على رحيلِ شاعرِ الدّنيا أبي الطيب المتنبي (303 – 354هـ)، وبعد مؤامراتٍ كثيرةٍ كان قد حاكها ضدَّه خصومُه لهَدْمِ بُنيانِ أسطورته، ظلّ الرّجلُ أعظمَ شعراء العربية، ولم تزدْه كراهةُ خصومِه له إلا شهرةً، وعظمةً، وسطوعاً، وإعجاباً به متزايداً، حتى صار في تاريخ ثقافتنا العربية مبدِعاً مُغامِراً بشِعره في نحت حياته، ومُقامِراً بحياته من أجل أن يحيا شِعرُه، بل هو قد مثّل وطناً من الشِّعْرِ لطالما تزاحم أحفادُه الشعراءُ على الانتسابِ إليه، فاستحقَّ بذلك صفةَ الشّاعرِ الشّاعرِ، حيث «كان أبو العلاء المعري إذا ذُكر الشعراء، يقول: قالَ أبو نواس كذا، قال البحتري كذا، قال أبو تمام كذا، فإذا ذَكَر المتنبي، قال: قال الشَّاعر كذا».
ولا عجب، وأمر المتنبّي على ما ذكرنا، من أن يزدادَ مُريدوه يوماً بعد يوم في جغرافيتنا العربية، ويسهم هو نفسُه يوماً بعد يوم، ومن حيث درى أم لم يَدْرِ، في عقد الصلات بين الأجيال الجديدة ولغتهم العربية من جهة، وفي تأسيس مفاهيم الجمال والخيرِ، ومقاييس الحكمة والمجدِ، ومعايير الإبداع ومعاني الفخر بالذّات عند مَن يقصدون بلاطَه، من جهة أخرى. وقد تكون وسائلُ الاتصالِ الحديثةُ ساهمت، اليومَ، في وصول المتنبي إلى أعداد مهولة من البشر، إلا أنَّ شهرتَه قديمة صاحبته مذ كانَ حياً (القرن الرابع الهجري) على قلة وسائل الاتصال أيامها – ثم تعاظمت تلك الشهرةُ بعده حتى قال ابن رشيق قولتَه الشهيرة في كتابه «العمدة في محاسن الشعر وآدابه»، والتي مهّد لها بتأكيده أنْ «ليس في المولدين أشهر أسماً من الحسن أبي نواس، ثم حبيب، والبحتري، ويقال: إنَّهما أخملا في زمانهما خمسمائة شاعر كلهم مجيد، ثم يتبعهما في الاشتهار ابن الرومي، وابن المعتز، فطار اسم ابن المعتز، حتى صار كالحسن في المولدين، وامرئ القيس في القدماء؛ فإن هؤلاء الثلاثة لا يكاد يجهلهم أحدٌ من الناس… ثم جاء المتنبي فملأ الدنيا وشغل الناس»!
ومن عظمة المتنبي أن جُلّ أبياته ذهبت أمثالاً يحفظها العامة والخاصة، ومن عظمته أيضاً أن وضع أحد خصومه الذين ألفوا نقداً لشعر المتنبي، كتاباً عنوانه: «الأمثال السائرة من شعر المتنبي»، لمؤلفه الصاحب إسماعيل بن عباد، هو امتدادٌ لظاهرة جريان أبيات المتنبي على الألسنة، بل جريانها في صروفِ الأزمنة، فإذا هي قد شرّقت في الناس وغرّبت، وأصبحت أمثالاً تُضرب وتَسير بها الرّكبانُ. ومؤلف هذا الكتاب، أو صاحب اختياراته، هو وزير له باعٌ في الوزارة، وراية خفّاقة في الأدب، شعراً ونثراً، إذ له تواقيع تشخص لها الأبصار، وفضله واسع، ويده في الأدب كريمة ممدودة، حتى قيل إن أكثر من أربعمائة شاعر قد مدحوه.
ويبدو أنّ الصاحب قد وضع كتابه إمّا نزولاً عند رغبة أحد أمراء دولة بني بويه، وإمّا بغيةَ الحصول على رضا الأمير. ففي المقدمة يشير ابن عباد إلى إعجاب الأمير بأبي الطيب المتنبي، من خلال جريان أبياته على لسانه، وضمن أحاديثه. ومن وجهة نظر الصاحب، على الأقل، فإنَّ هذه الاختيارات هي من شِعر المتنبّي زُبْدةُ زُبَدِ أبياته، ولا يرد على الذهن في هذا الشأن تأثيرُ ما جرى بين ابن عبّاد والمتنبي من خصومة على اختيارات الأبيات، فالكتاب مُهدَى من وزير نشأ في بلاط أمراء بني بويه، متعاقباً على التَّوْزير أميراً بعد أمير، ولا يمكن لعاقل كابن عبّاد أن يُقحِم خصومتَه الشخصية، فيما يفترض أنه سيقدّمه هدية لأميره. وإن تَعْجَبْ فعَجَبٌ أنّ الصاحبَ كان قد وضع كتاباً قبل هذا الكتاب، وسمه بـ«الكشف عن مساوئ شعر المتنبي»، وقال فيه: «حين أعود إلى ذِكرِ المتنبّي، فأُخرج بعض الأبيات التي يستوي الريِّضُ والمرتاضُ في المعرفة بسقوطها، دون المواضع التي تخفى على كثيرٍ من الناس لغُموضها»، وضمّنه ما يوافقه عليه البعض، وما لا يوافقه عليه، إلا مَن أبغض المتنبي، لعِلّة شخصية، لا هي علمية، ولا هي فنية. ويبقى السؤال الجدير بالطّرح هنا: هل الصاحب بن عباد، وإن بالغ في خصومته لأبي الطيب وعداوته له، متذوقٌ لشِعره؟!
إني لأزعم، ومن الزَّعم التأكيدُ، أنّ الصاحب بن عباد معجَبٌ بالمتنبي، وخصوصاً إذا علمنا أن سبب النزاع بينهما إنما هو طلبُ ابن عباد المتنبي ليَقْدَم إليه، فيقاسمه ما يملك، وكان الصاحب حينها شاباً، لم يُوَزَّرْ، فلم يجبه المتنبي، فوقع ذلك في نفسه موقع ألم، وخلّف عنده ضغينة وانتقاماً. لكن ذلك لا ينفي أصل إعجابه بشاعرية أبي الطيب، وإلا لما كان بعث إليه طامعاً في زيارته له، والبقاء عنده!
وفي أفق إعجاب الصاحب بن عبّاد بشعر المتنبّي يمكن أن نسأل عن سبب افتتان الخلقِ بهذا الشاعر؛ سواء أكانوا من المختصّين بالأدب أم من غير المختصّين، ومن المتذوقين للشعر المبحرين في لُجج المعاني أم من المكتفين من الشعر بالتنزه على شواطئ بحوره. والحق أقول إنّي لا أملك إجابة حاسمة عن هذا السؤال، ولكني أميل إلى اعتبار أن الحفاوة التي لقيها ديوان المتنبي، شرحاً، وثناءً، وقدحاً، بل ترجمة إلى اللغات العالمية الحية، لم تحصل لديوان من قبلُ. يُعبّر عن ذلك بجلاء، الأديب المؤرخ ياقوت الحموي، في قوله: «ولم نسمع بديوان شعر في الجاهلية ولا في الإسلام شُرح هكذا، بهذه الشروح الكثيرة، سوى هذا الديوان (يعني ديوان المتنبي)، ولا بتداول شعرٍ في أمثال، أو طُرف أو غرائب على ألسنة الأدباء في نظم أو نثر أكثر من شعر المتنبي». ذلك أنه من كثرة شروح ديوان المتنبي لم يتفق القومُ على عددها. فقد ذكر ابن خلكان أنّ أحد مشايخه الذين أخذ عنهم علمَه قال له عن ديوان المتنبي: «وقفت له على أكثر من أربعين شـرحاً ما بين مطولات ومختصرات، ولم يُفعَل هذا بديوان غيره». أما ابن كثير ففي أحداث سنة رحيل المتنبي، قال: «وقد رَثَاهُ الشُّعَرَاءُ، وَقَدْ شَرَحَ دِيوَانَهُ الْعُلَمَاءُ بالشِّعْرِ وَاللُّغَةِ نَحْواً مِنْ سِتِّينَ شَرْحاً وَجِيزاً وَبَسِيطاً».
وفي السياق ذاته، لا ننسى أن لدى أبي الطيّب طاقةَ جذب عجيبة، تجعله في بؤرة الأحداث، وصلب النقاشات، حياً وميتاً، وإن كان يصح فيه ما قاله سيلفادور دالي: «العظماء لا يموتون، ولذلك لن أموت»! أليس أبو الطيب هو القائل:
وما الدهرُ إلا من رواة قصائدي إذا قُلتُ شِعراً أصبح الدهرُ منشدا
أجِــزنِي إذا أُنشِــدْتَ شِـعراً فإنّـــــما بِشِـــــــــعري أتـــــــاك المادحــــــــون مُرَدَّدَا
ودَع كُل صَوتٍ غيرَ صوتي فإنني أنا الصائحُ المَحكِيُّ والآخرُ الصَّدى
لا شكّ في أنّ حضورَ المتنبّي في زمنه قد فاض عن تاريخه وأسّس مستقبَل حضوره في ثقافتنا، ذلك أنّ صخبَ حياته باقٍ بيننا، ويتردَّدُ إلى الآن صداه، والأمرُ منه لا يُستغرَبُ، فقد أصرّ منذ شبابه على تجاوز كل ظروف عوزه، وضيق حال أسرته، وأبى أن يكون إلا الرَّقم الأهمّ في كل معادلة يخوضها، فعل ذلك مُقدِّماً للأدب والشعر واللغة العربية، شخصية ثريةً، متألقة، تُشع بالعبقرية، والتميز، والنجاح، والجَمال، والإبداع.
جميع الحقوق محفوظة 2019