أتجول هذه الأيام في جدة، أتأمل شوارع هذه المدينة التي طالما كانت بالنسبة لنا نحن السعوديين المدينة ذات الاختلاف الكبير، في كل شيء، فهي تستقبل سنوياً مئات الآلاف من الزوار الذين يقصدون البيت الحرام، أو يأتون إلى السعودية للعمل، أو للاستثمار أو العيش. هذه المدينة اصطلحنا نحن معاشر السعوديين على اعتبارها اللون الأكثر اختلافاً من بين بقية المدن، فالمدن الأخرى نثر، وجدة هي “الشعر”. وقديماً قالوا: يجوز في الشعر ما لا يجوز في النثر، فالانفتاح الذي شهدته جدة في وقتٍ مبكر من تاريخ السعودية لا مثيل له في أية مدينةٍ أخرى، فهي جدة أم الرخاء والشدة.
أتجول في أفيائها وطرقها ودروبها وأنا أتذكر الذين وصفوا هذه المدينة، من محمد صادق دياب الذي ودعناه قبل أشهر، إلى محمد عبده شفاه الله، والذي غنى بجدة أعطر الأغنيات، تكفينا أغنيته:”قلنا من هي العروس؟ قالوا جدة”! والتي كتب نصها الشاعر القدير: إبراهيم خفاجي.
إذن جدة هي مخزون تاريخي كبير.
كلما مررتُ بحفرةٍ، أو بشارعٍ مهمل، أو ببيوت مبنية بشكل خاطئ، أو بعمالة سائبة، وكلما شاهدتُ صورة محزنةً في جدة أشعر أننا لم نعط هذه المدينة ما تستحق من البر والإحسان، أعطتنا الانفتاح والجمال، وأعطيناها القهر والذل، حيث تهمل المشاريع، وتغرق مرتين في أقل من سنتين، ويأكل جسدها المفسدون الذين نهشوا كل جمالها الذي كان ساحراً قبل أن ينخرها الفساد والعقوق.
الخبر المفرح أن الأمير خالد الفيصل بتصريحه الأخير فتح نافذة أملٍ لنا، حين قال في تصريح له قبل أمس” سعادتي لن تكتمل في جدة إلا عندما أرى أحياء مثل غليل والأجاويد والسامر وقويزة على مستوى الحي الذي أسكن فيه، وكما وعدتكم فقد تحولت مدينة جدة إلى ورشة عمل، ويجب أن تتحملوا أصوات الآليات والأعمال لعدة سنوات مقبلة، ولكن إن شاء الله ستكون العواقب حميدة، وستجدون أن هذه العروس الجميلة أصبحت أجمل وفي المكانة التي تستحقها”!
قال أبو عبدالله غفر الله له: نتمنى أن نرى جدة بعد هذه المشاريع آمنةً من كل كارثة، وأن ترسخ النظافة في كامل المدينة، وأتمنى من أعماق قلبي أن أشاهد هذه المدينة التي عشت فيها زمناً مهنياً وصحافياً جميلاً في حلة عروس، جدة أيها السادة ليست عجوزاً ولم تهرم بعد، نحن الذين أهملنا هذه الحسناء حتى نهشها الفساد وعلا جسدها جرح فوضىً نازف، نتمنى أن يردم ويعالج قريباً، بعد أن يُقصى المفسدون من المدينة.