اشتكى لي من حرّ الصيف غير واحد من الأصدقاء، والشكوى من الصيف كثيرة، لكنَّها تختلف باختلاف الشاكي. والناس مع حرِّ صيفِنا في الخليج، ما بين صابر محتسب، وغاضب متأفف، وبخاصة من لم يستطع الهروب إلى مصيف، لا يلومك على الهروب إليه عاقل.
كثيراً ما تحدثت لأصدقاء، ومعارف، عن جنوبنا الساحر في السعودية؛ فعن السودة، في منطقة عسير؛ حيث ترتفع أكثر من 3000 متر عن سطح البحر، ولا تتجاوز درجات الحرارة فيها صيفاً 15 درجة مئوية. وعن الطائف التي تبهج بالورد، في عزِّ الصيف، وترسل الأنسام من رؤوس الجبال، على المصطافين، فظنَّ بي بعضهم الظنون، وحسبوا الخيال والمبالغة يمران عبر حديثي، عندما قلت لهم إن السحاب يمر بجلسات المصطافين في مصايفنا، بل كثيراً ما يكون الغيم أسفل بعض المناطق!
من لم يزرِ الطائف، أو لم يغشَ الباحة وأبها وكثيراً من بيوت جنوبنا المطلة من رؤوس الجبال، لن يفهم أن هذا البلد الكبير، ليس صحراء وحسب، ولا مركزاً دينياً تهوي إليه أفئدة الخلق، فقط، وليس مجرد آبار نفط، ومدن صناعية، تمدُّ العالم بالمشتقات النفطية بشكل آمن والتزام.
بل يستحيل – وأتفهم صعوبة ذلك – أن يقتنع غريب بوجود مصايف سعودية طيبة الهواء، جميلة الأجواء، تنتقل إليها مئات الأسر السعودية، بل الخليجية، فالمصيف ثقافة قديمة، والسياحة المحلية تزدهر عاماً بعد عام، وهي باتجاه استقطاب مصطافين من العالم كله، ضمن برامج ومواسم تندرج ضمن رؤية المملكة 2030.
اقترحت على صديق يحب الشعر، أن يتجه لمدينة الطائف، ونصحته ألا يفوِّت موسم قطاف الورد الطائفي، الذي يستخرج منه أبهج العطور، الجديرة بالاقتناء، فاستغرب من طلبي.
لم أطل عليه الحديث عن الطائف، واكتفيت بإخباره بقصة الخليفة العباسي، المأمون، عندما منع الورد عن العامة، فلم يَعُد الوردُ يُرى إلا في مجلسه. ينقل الرواة أن المأمون، لم يكن يرى الورد للعامة، بل يختص بالورد، فلا يلبس من الثياب إلا الموردة، حتى رفع صاحب الخبر إلى المأمون، خبر حائك في أطراف المدينة، يعمل العام كله، ولا يتعطل في عيد ولا جمعة، حتى إذا قدم الربيع وازدانت الأرض بالورد، طوى سائر عمله، وغرد قائلاً…
طاب الزمانُ وجاء الورد فاصطبحوا
ما دام للوردِ أزهارٌ وأنوارُ
فإذا راق مزاجه، غنّى:
فإن يبقني ربي إلى الورد اصطبح
وندمان صدق حاكة ونبيط
فقال المأمون؛ لقد نظر الورد بعين جليلة، فينبغي أن نعينه على هذه المروءة، وأمر له كل عام بـ10 آلاف درهم.
ولأن صاحبي الهارب من الصيف، يحب الشعر الشعبي، ويجل شاعر الوطن الكبير خلف بن هذال، ذكرته بأبيات جميلة له، يصف جمال صيف الجنوب ويقارنه بالتصييف في عواصم أوروبا…
ثلجٍ على السودة نهارٍ من الصيف
كن ايتكسّر فيه سكّر نباتي
علّم ربوعٍ يم باريس وجنيف
يستنشقون مع أول الذارياتي
لثّيت في ذيك الطوال المشاريف
والذ واحلى لحظة في حياتي
دسَّ صاحبي يده في جيبه، وعرض عليّ دواءً مضاداً للاكتئاب، فتعجبت وازدادت حيرتي، فصديقي الذي عجزت عن إقناعه بضرورة مراجعة عيادة التوقف عن التدخين، يحمل في جيبه حبوباً ضد الاكتئاب، ولو كان غير صاحبي هذا لعذرته، وأنهيت حكايا الشعر والشعراء في فصل الصيف، لكن حدس الإعلامي الذي لا يصبر عن القصص دفعني لسؤاله عن قصته مع هذه الحبوب الفجائية، وكان جوابه أكبر من حيرتي عزيزي القارئ، فصاحبنا المكتئب اطلع على مقال علمي عن الاكتئاب الموسمي – وهو اضطراب مزاجي معروف يحدث كل عام في نفس الوقت – وهو معروف في شمال الكرة الأرضية باكتئاب الشتاء، لكن صاحبي الذي أعرفه منذ سنين، وأعرف حبه للسفر وغرامه بالترحال في كل الفصول يفاجئني الآن بتشخيص نفسه بنفسه، فقد قرر الذهاب لصيدلية يملكها قريب له، وقرر البقاء في البيت كي لا يفوت جرعة من جرعات الدواء الذي سيجعل صيفه ضيفاً خفيفاً كما يظن!
وقبل أن يقول لي عن تأثير الهرمونات ويربك يومي بمصطلحاته الطبية، التي يبدو أنه تدرب على نطقها جيداً، سألته أسئلة بسيطة عن مواعيد النوم، وساعات المشي، وإجراء الفحوصات الروتينية قبل البدء بتناول أي دواء، فما كان منه إلا أن أدخل يده في جيبه الثاني، ليخرج لي بحثاً علمياً، مكتوباً على هوامشه بخط يده، فالرجل مقتنع بأنه قد أصيب بعد 50 عاماً باكتئاب الصيف، عرضت عليه أن آخذه لموعد مع صديق ثالث يعمل طبيباً نفسياً منذ 20 عاماً، فرفض بحجج من لا يرغب الفكرة أصلاً!
تألمت، بل غضب على نصف المعلومة الطبية، التي يصل إليها البعض، دون أن ينتبهوا إلى أن لكل دواء ضوابط وأحكاماً، مروراً بالصيدلي الذي لم يكلف نفسه حتى عناء التأكد من مرور صاحبي – الذي يعتقد أنه مصاب باكتئاب الصيف – عن آخر فحوصاته، وهل وصفته موقَّعة من طبيب مختص. أحسب أنه من الصعب إفساد مزاجي بسهولة، خاصة إذا كان المجلس قد بدأ بالشعر، وإعانة المأمون للحائك على مروءته، وتغني خلف بن هذال بجنوبنا الساحر، سقى الله جباله الغمام!
وحتى لا نظلم الصيف، الذي اتُهم مؤخراً بأنه من مسببات الاكتئاب، فإني مذكرٌ نفسي، قبلك، عزيزي القارئ، بفلسفة من فلسفات إيليا أبو ماضي، البديع، كلما جاء الصيف… إيليا الذي انتصر للجداول والينابيع، وغنى للورد وخرير الماء…
ما أحيلى الصيف ما أكرمَه
ملأ الدنيا رخاءً ورفاها
عندما ردَّ إلى الأرض الصبا
ردَّ أحلامي التي الدهر طواها
كنت أشكو مثلما تشكو الضنى
فشفى آلامَ نفسي وشفاها
تذكرت صديقاً يكرر كل صيف؛ الشكوى من لهيب الصيف، لا يمكن بحال أن يخفف من حرارة الجو، بل يجعلك تحس بحرارة داخلك، وقد أصاب كبد الحقيقة، وكأنه حفظ شعر أبو ماضي عن ظهر قلب…
وإذا لم تبصر النفس المنى
في الضحى كيف تراها في مساها؟
هذه الجنة فاسرح في رباها
واشهد السحر زهوراً ومياها
واستمع للشعر من بلبلها
فهو الشعر الذي ليس يضاهى
أعترف بأن هذا الصيف ساخن، لكن العقلاء يقولون، إن ما لا تستطيع تغييره، فالحديث عنه، يزيد الألم، ولا يبرئ علة!
متَّعكم الله بفصول العام، وهنّأ من استطاع أن يشهد مواسم الورد، التي قال فيه شاعرنا العربي…
حبيبٌ إذا ما زارنا قلَّ لبثّه
وإن هو عنَّا غاب طالَ جفاؤه