مات بهدوء، الشاعر محمد الثبيتي (1952-2011) أحد رواد الشعر والحداثة في السعودية، صارع المرض طويلاً قبل أن يسلم روحه إلى بارئها. استطاع خلال رحلته الشعرية أن يكون قاعدة جماهيرية ونخبوية في آنٍ واحد. لكن رحيله جاء في ظرف لم يعد الشعر فيه مقروءاً بعد أن صارت الرواية ديواناً للمجتمعات، أدخل عنوةً في صراع مع جيلٍ من الإسلاميين في الثمانينيات، لكنه صراع أنتج وأثمر فكتب خلال عزلته ديوانه الشهير: “موقف الرمال”. استضفته في حلقة من برنامج “إضاءات” على قناة العربية في 15-6-2007 وكان الثبيتي مبدعاً، وتداولت المنتديات وأدوات التقنية القصائد التي ألقاها بصوته الرخيم في تلك الحلقة، وخصوصاً قصيدته الرائعة “بوابة الريح” والتي جاء فيها: مضى شراعي بما لا تشتهي ريحي ** وفاتني الفجر إذ طالت تراويحي أبحرت تهوي إلى الأعماق قافيتي ** ويرتقي في حبال الريح تسبيحي نبت هذا الشاعر في الصحراء، كأنه النخلة السامقة، والتي تؤتي أكلها كل حين، بشعره النابض بالحب والحياة ورائحة الرمل والصحراء والمطر نظم قصائده، وحين سألتُه إبان حواري معه عن المعنى الدقيق للشعر والشاعر أجابني:” الشاعر عنده إحساس أكثر من الآخرين أو إدراكه لهذا الإحساس أكثر من الآخرين.. استجابة لإيقاع الزمن وإيقاع الحياة، والشعر العربي وبحوره وأوزانه كانت استجابة لإيقاعات الحياة؛ سير الإبل مثلاً وأصوات المطارق هي التي على مر الزمن تكونت منها البحور الشعرية”. وإذا كان هناك من فنّ تصقله التجربة كثيراً فهو فنّ الكتابة عموماً، في حواري معه كان يتعجب من جرأته في شبابه باستخدام مفردات تحتاج إلى شجاعة كبيرة لم تكن لديه في آخر حياته، وخاصة كلمات استخدمها في “التضاريس” يقول: “أنا الآن تأملت في التضاريس حتى على مستوى المفردة كان عندي جرأة عجيبة، لولا أني أدرك أنها كانت لازمة كان يمكن استغفر منها الآن وأزيله، وصارت زجي يا شقراء مثلاً، أنا ما ممكن أكتبها أو ابتداء من الشيب حتى هديل الأباريق.. تسترسل اللغة الحجرية بيضاء كالقاري.. نفرة كعروق الزجاجة.. أنا لا ما ممكن أكتبها بها لشكل إلا يكون فيه، يعني تنقصني الجرأة والشجاعة أيضاً”. برحيل الشاعر الكبير محمد الثبيتي تطوى صفحة شعرية عربية كبيرة، وبموته يحيا حرفه أصيل النبرة صافي الصوت، أشبع الخليج بالحروف والمعاني الجديدة. ولسان حاله ما قاله هو: في انتظار المساء الخرافي/ ترسو مراكبنا البابلية خفاقة الأشرعة/ وريح محملة بالضجيج تدير نجوم المجرة حول/ ضفاف الخليج وتعبث بالصوت والماء والأمتعة. تجربته الشعرية نفّاذة وأصيلة، ترعرعت قصيدته من رحم القصيدة العمودية، يصفه محمود حبيب قائلاً: “العلامة الفارقة في موقع محمد الثبيتي من القصيدة السعودية الحديثة هي جلوس الشاعر نفسه على كرسيين اثنين في وقت واحد، من دون أن يسقط بينهما، كما يعبّر المثل الفرنسي. والفقرة الزمنية التي أدّى فيها الثبيتي دوره في المشهد فرضت أن يكون شاعراً قادماً من الجذور، محملاً بهاجس حقيقي نحو امتداد التجربة الشعرية الحديثة. وبمساندة الموهبة والجدية تمكن محمد الثبيتي من أن يكون محمد الثبيتي، نفسه، دون أن يتورط في نزق يسلبه ملامحه. وهو في أعماله الثلاثة الأساسية “تهجيت حلماً .. تهجيت وهماً” و”التضاريس” و”سيد البيد” يقدم نفسه بدوياً رائعاً”. وداعاً أيها البدوي الصحراوي الكبير الذي نحت حروفه من صخرٍ صلب، طبت وطابت روحك، سيقرأ الأطفال والأبناء شعرك، وستتداوله الأجيال…كلما سمعتُ قصيدةً بصوتك أشعر أنني بجوارٍ غارٍ من نور في جوف الحجاز، كأن الحشرجة التي تغرف بها قصيدتك ساعة إلقائك تحبس في عروقها أمل المدينة ووجع الصحراء … رحم الله الشاعر الثبيتي رحمةً واسعة.
جميع الحقوق محفوظة 2019