قطعت قنواتُ التلفزة بثَّها قبل أيام، لتعلنَ إصابة رئيس الوزراء الياباني الأسبق، تشينزو آبي، برصاصة أطلقها أحدُ مناوئيه، خلال إلقاء آبي كلمة في حشد من جماهيره، تمهيداً لعودته لرئاسة وزراء اليابان للمرة الخامسة، لكن الرصاصة، التي خرجت من مسدسٍ صُنِعَ منزلياً، كانت كفيلةً بإنهاء حياة السياسي الياباني الشهير، والذي ستزيد طريقة رحيله التراجيدية شهرته بعد موته.
كنتُ قد أجريت مقابلة تلفزيونية مع آبي، في مارس 2017، وهي المقابلة الوحيدة له مع الإعلام العربي، وربَّما كانت المقابلة، أحدَ أسبابِ حزني على رحيل رئيس الوزراء الياباني الأطول خدمة بهذا المنصب، بأيام عددها 2883، إضافة لكونه حقَّق رَقماً قياسياً في عدد دورات توليه رئاسة الوزراء، بأربع مرات، وأوشك بلوغ الخامسة، لولا أنْ عاجلته المنية.
ما زلتُ أذكر كيف كان فريقه آنذاك، يُدَقِّقُ في تفاصيل التفاصيل، ضمنَ تحضيرات المقابلة، التي امتدَّت لأسابيع، وكيف إذا أشكل على أحدهم أمرٌ، اجتمع مع جملة من الزملاء اجتماعاً، بدا لي وزملائي، أنَّ هذا الاجتماع، أهمُّ من اجتماعات مجلس الأمن، مع أنَّ موضوعه مُغرِقٌ في التفاصيل أيضاً، فظننتُ، مقترباً من الجزم، أن مقولة: «الشيطان يكمن في التفاصيل»، مثل ياباني. على أنَّ جدّيتَهم، وحرصَهم على الدقة، دلالة مهنية راقية، ومظهر إتقان للعمل، وهو ما صنع من اليابان أمةً راقيةً، جديرة بالاحترام والتقدير.
كانَ الملكُ سلمان أولَ ملك سعودي يزور اليابان، منذ 47 عاماً، بعد زيارة الملك فيصل الذي التقى رئيسَ الحكومة اليابانية، كيشي، جَدَّ المغدور آبي.
قال لي شينزو آبي: «عندما زار الملك فيصل اليابان زار بيتَ جدّي، نوبوسوكيه كيشي، الذي كانَ حينَها رئيساً للوزراء، ولذلك أشعر بوجود هذه الرابطة القوية مع الأسرة الملكية السعودية».
المفارقة اللافتة أنَّ الجَدَّ، تعرض لمحاولة اغتيال مثل الحفيد، في 1960، وأثخنتْه جراحاً، لكنَّه نجَا من الموت آنذاك… وأدركَ الموتُ شينزو آبي، السياسي الياباني المحنك، الذي قادت استراتيجيتُه الاقتصادية المسماة «الآبينومكس»، بلاده للنمو بعد سنوات ركود، وتقوم الاستراتيجية على الإصلاحات الهيكلية، والتحفيز المالي، والتيسير النقدي. كما أنَّه انفتح سياسياً على روسيا والصين والهند، وأصلح خلافات تاريخية مع كوريا الجنوبية، كما مدَّ جسورَ تعاونٍ وصداقةٍ مع كثير من الدول العربية.
أعود للمقابلة التلفزيونية، إذ لفتَ نظري أنَّ رئيس الوزراء الياباني، المُلقب بـ»«الأمير»، والمتحدر من عائلة سياسية عريقة، كان يضع أوراقاً إلى يمين كرسيه، وبشكل حرصَ مستشاروه، على ألا تظهرَ في الصورة، وقرأ معظم الإجابات من الورق، في طريقة تقليدية، لم أتوقّعها من سياسيٍّ عركته المناصبُ، ودعكته التجاربُ، حدَّ الاغتيال. لكنّي أتذكر أنَّ المقابلة كانت قبل انتخابات يابانية (أجريت في أكتوبر 2017)، وربما كان الراحلُ يخشَى أن يقولَ شيئاً يثير عليه الخصوم، وقد بدتْ جليَّةً، إثر اغتيالِه، ضراوة خصومتهم!
جميع الحقوق محفوظة 2019