«أنا طاهر زمخشري، عشت في ظلال هذا البيت، وليد الفقر، ونشأت في أحضان البؤس، وترعرعت أسير اليأس، حتى أخذت طريقي بكل اعتزاز وفخر، إلى النجاح في الطريق الذي سلكته، وهذا بفضل الله، ثم رعاية من رعاني طفلاً، وساعدني شاباً، وهداني إلى الطريق السوي»… هكذا تحدّث الشاعر السعودي الكبير طاهر زمخشري عن نفسه، في الليلة التي احتفى به فيها، الوجيه، عبد المقصود خوجة، في منتداه الفكري الأسبوعي (الاثنينية)، التي كرّمت الكثير من أعلام الأدب والعلم والفكر على مدى عقود.
عام 1914، ولد طاهر زمخشري، بمكة المكرمة، لوالد يعمل في المحكمة الشرعية، وفي جو أسري واجتماعي، لم نعرف عنه الكثير. وعلى الفقر الذي عاشه، كان طاهر كريم النفس، سخيَّ اليد، وافرَ العاطفة، طموح النفس، مرهف الإحساس، وكم ذا يعاني المرهفون، في هذا العالم القاسي!
درس الفتى طاهر، في مدرسة الفلاح، وهي من المدارس المتميزة، التي خَرَّجت نخبة البلاد في الحجاز.
وكانت الشهادة الثانوية، تُنالُ بعد تسع سنوات من الدراسة، فتخرّج طاهر، من مدارس الفلاح، في 1930، ولم تكن الأحوال المادية الصعبة، لتسمح له، بأن يواصل تعليمه الجامعي، فأخذ الفتى يبحث، عن وظيفة، توفر له قوته.
عمل طاهر، في إدارة النفوس، بمكة، ثم وجد فرصة وظيفية، في المطبعة الأميرية، التي كان يديرها الأديب، محمد سعيد عبد المقصود (ت 1941)، وفي نظر طاهر، فإن تلك المطبعة، أحسن بيئة عمل، يمكن ليافع مغرم بالثقافة والأدب، أن يعمل فيها، فإلى المطبعة، تصل المجلات، والصحف المصرية، التي كان أعلام الأدب يكتبون فيها، وفي المطبعة، يتاح للفتى الناشئ أن يقرأ ما يجدُّ من الإصدارات الثقافية، وفي المطبعة، يقام النادي الأدبي، الذي يجتمع فيه النابغون، الذين صاروا رواد الأدب والقصة والشعر السعودي فيما بعد.
وكان يُعهد إلى طاهر مهمة تبويب الصحف الواردة إلى المطبعة، وأرشفتها، لكنه كان يمضي الوقت، في قراءتها، ابتداءً، وتستغرق تلك القراءة، ساعات طويلة، ولم يكن مدير المطبعة، يمانع، أن يُغذي الفتى نهمه المعرفي…
كانت أياماً جميلة، لكنها لم تطل؛ إذ انصاع طاهر، لرغبة والده، الذي أمره بالانتقال إلى المدينة المنورة، ليعيش إلى جانب أمه. وفي طيبة الطيبة، تزوج طاهر ابنة خاله، وعمل في التدريس فترة، وهناك، امتدت حبال الود، بينه وبين المجتمع الأدبي؛ إذ كان مواظباً، على حضور الندوات الأسبوعية، التي كانت تجمع مثقفي المدينة.
روح طاهر الجوّابة، لا تستقر في مكان واحد، «ولا يدوم على حال لها شأن»، تتقاذفه أمواج الوظائف، فهو تارة، سكرتير بأمانة العاصمة المقدسة، وتارة، مدرس بدار الأيتام بالمدينة، وتارة، موظف بديوان الجمارك، حيث البلاد في طور التأسيس، وحينها كانت الكوادر المثقفة القديرة إدارياً، محدودة، فلم يكن مستغرباً، أن يتنقل طاهر بين تلك الوظائف المختلفة، طالما أن الفرص الوظيفية متوفرة، والوظائف أكثر من أعداد الموظفين.
لكن طاهراً، وجد نفسه، في الإذاعة، التي كان واحداً، من مؤسسيها الأوائل؛ إذ عمل فيها لعقود، قبل أن يحال للتقاعد، وأعدّ وقدّم أول برنامج في تاريخ الإذاعة السعودية، موجه للأطفال، اسمه: «بابا طاهر»، وكانَ عشق أطفال ذلك الزمن، ولم يعد أولئك الأطفال أطفالاً؛ فقد صار من بقي منهم الآن، في عداد الشيوخ.
في الإذاعة، تفتقت مواهب طاهر زمخشري، فإذا هو، فنان موهوب، أسس الفرقة الموسيقية السعودية، وأدار قسم الخراج في الإذاعة السعودية، وكتب أكثر من 87 أغنية، وطنية، وعاطفية، وغنى له طلال مداح، وابتسام لطفي، وطارق عبد الحكيم، ومحمد عبده، وآخرون. وقد كان مهتماً بإبراز الأغنية السعودية على المستوى العربي، فدعم الفنانين السعوديين في بداياتهم وشجعهم.
وكم هي فاتنة، وشجية، تلك الأبيات، التي غناها، طارق عبد الحكيم، يتغنى فيها طاهر، بمكة وآياتها البينات:
أهيم بروحي على الرابية… وعند المطاف وفي المروتين
وأهفو إلى ذِكَرٍ غالية… لدى البيت والخيف والأخشبين
فيهدر دمعي بآماقيه… ويجري لظاه على الوجنتين
ويصرخ شوقي بأعماقيه… فأرسل من مقلتي دمعتين
وكم هي حلوة تلك الأغنية، التي يباهي فيها طاهر بالوطن، والتي غنتها مها الجابري:
بلادي فداءك روحي وعيني… بنور يشع من المسجدين
بلادي بلادي بلاد الهدى… تجاوزت بالعدل أقصى المدى
فكنت نشيداً طروب الصدى… وما زال يهتف في الخافقين
ويكفي أن نعرف، أن له ثلاثة وعشرين ديواناً، من الشعر الذي شهد له النقاد، بسهولة العبارة، وخفة الروح، وبلاغة التعبير، وجمال السبك. وهو إن لم يكن أول من أصدر ديواناً شعرياً في السعودية «ديوان أحلام الربيع» الذي صدر في 1365هـ (1946)، فهو من أوائل من أصدروا ديواناً شعرياً في السعودية.
ولم يكن هذا كل شيء! فقد كان طاهر، يكتب، للصحف والمجلات السعودية والعربية، ورأس تحرير صحيفة «البلاد»، لبعض الوقت، وكان، إضافة إلى ذلك، يسافر، ليلقى الأدباء، والمثقفين، ويوطد علاقاته مع حملة الأقلام وأرباب الأدب.
على أن طاهر زمخشري، عاش حياة مليئة بالوجع والآلام، مغمورة بالهموم والأحزان، وزاد من آلامه، وضاعف أحزانه، ما تتصف به نفسه، من إحساس مرهف، تتضخم فيه الأحزان، فيبكي شعراً، فيه حزن، ووجع، لكنَّ فيه أملاً! وهو يعتبر من الطليعة المجددة لحركة الشعر العربي في السعودية، من خلال تواصله مع التيارات التجديدية العربية.
ويعتبر الدكتور محمد الشنطي، أنه «إذا كان أبو العلاء المعري رهين المحبسين، فإن طاهر زمخشري (شادي الغربتين)، لاغترابه المكاني والنفسي».
في حين يعتبر الناقد حسين بافقيه، أن «زمخشري شاعر البهجة»؛ لأنه استطاع تحويل كل مظاهر الحياة التي تتصل به إلى شهر، فيما تحكم بتجربته الشعرية الغربة والحزن والألم، «وإن تحدثنا في جانب الرومانسية فإنه لم يَحِد في دواوينه كافة عن ذلك». مؤكداً أنه عوّض ألم الغربة بالبهجة؛ فهو من أكثر الشعراء العرب تناولاً لمباهج الحياة.
ولا غرو؛ فهو عندما وقف ليتسلَّم جائزة الدولة التقديرية من الملك فهد، قَدّم نفسه بسخرية وبهجة، قائلاً «أنا طاهر زمخشري، كومة من الفحم سوداء، تلبس ثياباً بيضاء، تقول شعراً قصائدهُ حمراء، وخضراء، وصفراء»، وزاد «ومن قصائدي البيضاء أن أغني للحب وللوفاء كما عشت في مشواري الطويل». ثم ألقى قصيدة في عام 1985 أمام الفهد:
يا أعذب الحب أمالي قد ابتسمت… في موطنٍ رقصت في جوه النعمُ
وقد بسطت بها فيئاً يظللنا… والخير ما زال فياضاً به الكرمُ
وقد صحونا على صوتٍ سرى نغم… وللزمان بترديد النشيد فمُ
وكل خافقةٍ جاش الحنين بها… صاغت بحباتها في حبك القسمُ
يا أعذب الحب أكبادٌ مقرحةٌ… بغير كفك لا والله تلتئمُ
وقد رماها إلى كفٍ بلا قدر… فهل لغيرك بعد الله تعتصمُ
الله أكبر… صوتٌ أنت رافعهُ…. والرجع عاد به الميقات والحرمُ
فأنت غيثٌ من المولى حمائله… العلم والدين والأخلاق والشيمُ
أما سخريته وبهجته، فيقول:
سأظل أسخر بالخطوب وفي… الحياة ومن تصاريف الزمان
وأظل أضحك للهموم فلا… أنوح ولا أضيق بما أعاني
وفؤادي الرفاف يرقص في… الحريق على تراجيع الأغاني
أسَّس طاهر زمخشري، مجلة «الروضة» للأطفال، وضع فيها كل مدخراته، واستقدم لها أبرع الفنانين، وجهَّز مكتبها بأفخم التجهيزات، وأصدرها ملونة، لتكون أول مجلة أطفال سعودية، وكان حفل افتتاحها مهيباً… لكن المجلة، تعثرت، بعدما صدر منها 29 عدداً، ولم تقوَ إيراداتها الضئيلة، بمصروفاتها الثقيلة، وكان هذا الفشل، الذي منيت به المجلة الناشئة، والذي استعصى على العلاج، ضربة موجعة لطاهر، الشاعر الذي كانت الأوجاع قد تلاحقت عليه… انهارت أعصاب شاعرنا، فغادر لتلقي العلاج.
في نهايات حياته، نال طاهر زمخشري، جائزة الدولة التقديرية، في الأدب، كما أنه نال وسامين تقديريين من الدولة التونسية. وكانت الأسقام قد تكالبت عليه، مع الإرهاق، الذي سببته له تلك المصاعب والمصائب، والديون الثقيلة، التي تكالبت عليه، ولم يزل طاهر، يعاني من مختلف الأسقام، حتى وافته المنية، عام 1987، ودفن في المعلاة، في مكة التي ضمت رفاته ميتاً، كما شهدت صرخته الأولى حين قدم إليها من عالم الغيب.
جميع الحقوق محفوظة 2019