جزى الله “اليوتيوب” عنا وعن الراحلين خير الجزاء!
كلما فتحتُه باحثاً أو مستمعاً أجد القامات العلمية الكبيرة التي ضمها بلدنا، من المؤرخين والنسابين إلى المبدعين، إلى المذيعين الراحلين، بعض الشباب أسس في “اليوتيوب” قنوات للذكريات، فيها بعض العبق القديم الذي أسس لنا الجديد الذي نعيشه. زميلنا الأستاذ كمال عبدالقادر ذكّرني بعالم ومؤرخٍ جليل هو محمد حسن زيدان، رحمة الله عليه، حين أرسل إلي رابط فيديو ضم حديثاً شجياً تلفزيونياً، بدا صوته متهدجاً وهو يتحدث. حتى لكأنه ينطق بكل عبق أرض الحجاز ونفَسها. تأملتُ كم عدد الذين يعرفونه من الجيل الحالي وقد توفي سنة 1992، ما يعني أن الذين تتراوح أعمارهم في بداية العشرينات معظمهم لا يعرفونه، لأنهم ولدوا بعد وفاته!
من ترجمة الراحل بحسب: “طلائع الخطاب النهضوي في الحجاز”، أنه من مواليد المدينة المنورة، و”التحق بالمدرسة النظامية الابتدائية بينبع البحر، بعد أن كان قد تعلم القراءة في سوق الحراج، كما كان يحب أن يتباهى دائما، ثم التحق بالمدرسة العبدلية بالمدينة، والتي سميت فيما بعد بالمدرسة الراقية الهاشمية ونال شهادتها في أواسط عام 1925م، ثم التحق زيدان بالمسجد النبوي الشريف، وتلقى العلم على أيدي مشايخه الكبار، اشتهر بلقب زوربا الحجاز، لاستيعابه الخارق للتاريخ، ولاسيما التاريخ الإسلامي، وتذكره الوافر للأحداث ما يدعو للانبهار، ويجبر على الإعجاب”!
لكلماته طابع إنساني مختلف، فهو يشرح الطبيعة الإنسانية العميقة المتحررة من الأعراق، أو الانتماءات الضيقة، وتأمله وهو يكتب عن نفسه: “أنا عربي.. سواء كنت من ذوي الأعراق، أو من ذوي الاستعراق! أحارب الحيف، وأُكرم الضيف. يطعني السيف، أتمرد على العدالة، ويأخذني الظلم إلى الاعتدال. أصبر على الجوع، وأتستّر على الشبع. بالشظف أسُود، بالترف أُستعبد.. أيستعبدني أحد.. وأنا بالترف تستعبدني الشهوات.. وهذا حالي أصف به نفسي، كأّي نفس عربية تعيش اليوم”.
كان مؤرخاً عارفاً الأنساب وبالتاريخ، وكان مبحراً في العلوم العربية والحديث والشعر، له قيمته في وصل الثقافة المحلية القديمة بالمعاصرة من خلال مناقشته حتى للقضايا الساخنة والكبيرة في الشرق الأوسط، ولم يستنكف وهو المؤرخ الجليل والنسابة العظيم من أن يكون ضمن الكتاب في مجالٍ يرى البعض أنه موغل في المعاصرة أو بالنفس الصحافي.
قال أبو عبدالله ـ غفر الله له ـ سقى الله قبور أولئك العظماء من غيث رحماته، لقد كانوا اللبنات الأولى التي أسست للمعارف والعلوم والتاريخ وحفظت مرحلةً لولا جهودهم كان يمكن أن تنسى ويطمرها الزمن.. رحم الله الشيخ محمد رحمةً واسعة!
* أبارك لقرائي الأعزاء حلول شهر رمضان المبارك، وأستأذنهم في التغيب عن كتابة هذه الزاوية، للاستمتاع بإجازتي السنوية. وكل عام وأنتم بخير.