كان أكثر ما لفت نظري وأثّر بي عندما شاركت في مؤتمر الإعلام العربي والعالمي 2005 الذي نظمته مؤسسة الفكر العربي وعقد الأسبوع الماضي في دبي، هو الصحافي البريطاني فرانك غاردنر مراسل BBC للشؤون الأمنية·
كان غاردنر يتنقل بين ردهات المؤتمر وقاعاته بحيوية ونشاط، وإن كان لا يستطيع التحرك دون كرسيه المتحرك الذي التصق به إثر ست رصاصات تلقاها الصحفي ذو الاثنتين وأربعين سنة في حي السويدي أحد أحياء جنوب العاصمة السعودية الرياض، أطلقها في 6/6/2004 الإرهابي السعودي عبدالله السبيعي (قتل في ديسمبر2004 في الهجوم على وزارة الداخلية السعودية) أحد أفراد تنظيم القاعدة في جزيرة العرب، وهو ينفذ تعليمات زعيمه وقائده فيصل الدخيِّل، الذي أصدر أمراً بمقتل فرانك غاردنر وزميله المصور التلفزيوني الإيرلندي سايمون كامبرس·
الرصاصات الست كانت من مسدس عيار 9 ملليمترات واصابت العمود الفقري والحوض والمعدة، وكان غاردنر يتوقع أن تكون الرصاصة الأخيرة في رأسه، لكن الإرهابيين لم يفعلوا ذلك بعدما وجدوا في جيبه نسخة من القرآن الكريم·
لم يكن حمل القرآن الكريم غريباً على غاردنر فرحلته مع الشرق والإسلام بدأت عندما كان في السادسة عشرة من عمره عندما كان رفقة والدته في زيارة لصديق للعائلة، مهتم بشؤون الشرق· وسحرت قصص الصديق عن المنطقة العربية فرانك غاردنر فتخصص في دراسته الجامعية في الشؤون العربية والإسلامية، وعمل مراسلاً لهيئة الإذاعة البريطانية في المنطقة أكثر من عشر سنوات·
غاردنر وكامبرس كانا يحاولان نقل حقيقة معركة السعودية مع الإرهاب، وبحثهما عن الحقيقة كلف أحدهما حياته، والآخر قدميه، إذ اصيب بالشلل· الحقيقة غالية، وكثيرون ينسحبون في مشوار البحث عنها، لكن غاردنر لم يكن منهم، ولذلك بقي يواصل ركضه الصحافي، ونشاطه المهني، وهمته الاعلامية· فكان حضوره متألقاً في المؤتمر حتى في نقاشاته الجانبية· وكانت رسالته المهنية التي يبعثها في الإصرار على مواصلة الرحلة المهنية، بالغة الأثر·
بدأ الصحافي البطل علاقته مع السعودية بزيارتها في العام 1989 وتردد عليها كثيراً وهو قال في أكثر من لقاء صحافي بعد إطلاق النار عليه في الرياض، إنه من أشد المعجبين بالمملكة، وإنها ”بلاد يساء فهمها في العالم”، واعتبرها مكاناً رائعا ومتنوعا ومتعدد الثقافات، ”وعندما وقع ما حدث لي في الرياض كان الأمر صعباً بطريقة مضاعفة لأني أذهب إلى هناك لسنوات وأشعر أنني أعرفها”·
الصعوبة لم تنته بل هناك مكامن أكثر الماً وصراحة وايذاء، فغاردنر الذي يحمل درجة جامعية في الدراسات الإسلامية، يعي معنى التحية الإسلامية، وإن قول المرء: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، يعني إشاعة السلام والرحمة الإلهية والبركة الربانية، لكن أبناءنا الإرهابيين، الذين يولدون في بيئات مسلمة، ويفترض أن نصوص الإسلام تتردد عليهم صباح مساء، لم يعوا هذه الحقيقة·
فالسبيعي الذي أطلق النار على غاردنر، ترجل من سيارته إليه وقال له: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فرد وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، ثم أخرج مسدساً وأطلق النار ”كان الأمر بالنسبة لي أنا الذي أحمل درجة جامعية في الدراسات الإسلامية، ويحترم الإسلام ويحب حباً كبيراً العالم العربي، واحدة من أسوأ اللحظات في حياتي”·
ألم أقل لكم يوماً: اللهم اكفنا شر ابنائنا، أما أبناء الآخرين، فإننا نستطيع التعامل معهم؟!
تحياتنا لك يا غاردنر، والسلام عليك، والاعتذار، لأنك صحافي عظيم، ولأنك أصبت في بلادنا···
جميع الحقوق محفوظة 2019