عندما قضيت شهراً قبل أسابيع في الخارج انتابني حنين عارم إلى وطني، وكانت رؤيتي لإشارة طيران الإمارات وأنا في مطار “شارل ديجول” في باريس كفيلة بإطفاء جذوة نيران الحنين في داخلي.
أنا سعودي، وأفتخر بسعوديتي، لكنني مع تنقلي بين مدن كثيرة للدراسة والعمل أو حتى السياحة، لم أحس بالانتماء كما أفعل مع دبي!
كنت أقول لأحد الزملاء قبل فترة، وأنا تحت تأثير إبهار دبي، هذه المدينة الساحرة، إن أهم مميزاتها، أن كل جنسية، أياً كانت جغرافيتها، شرقاً أو غرباً، تحس بالانتماء إلى دبي، طيلة مدة إقامتها فيها.
إحساسك بالانتماء إلى المكان الذي تعيش فيه، ولو مؤقتاً، خلال فترة إقامتك، ليس إحساساً جانبياً ينبني لدى الشخص الذي يقيم في المدينة، بل هو شعور مهم يساهم في إيجابية الفرد. هذا الشعور الذي ينبني على ضفتي العلاقة، الإنسان من جهة، والمدينة من جهة أخرى، وقلة من الأماكن التي تلتزم دورها في تأمين هذه الأحاسيس لساكنيها.
وإذا كان علماء الاجتماع يصنفون مدناً بأنها اجتماعية فيما لا تحظى مدن أخرى بهذه الميزة، فإن دبي في طليعة المدن القابلة المستوعبة للآخر، فيما تسيطر صفة الرفض واللفظ على مدن أخرى.
صباح يوم باريسي قال لي صديقي: إن انفجاراً وقع في دبي! أحسست بأن الإصابة تلم بقلبي، وتجتاحني بين أضلعي! كنت – حينها- أعلم يقيناً أن زوجتي وأطفالي الثلاثة، الذين أأتمن دبي عليهم في أسفاري، ليسوا حول المطار ولم يغشوه منذ زمن، لكن قلبي ينبض بدبي كلها.
لاحقاً حزنت للحدث، لكنني فرحت لكونه انهياراً في مبنى قيد الإنشاء في المطار، وليس عملاً مقصوداً، والمصائب يهوِّن بعضها بعضاً.
بالتأكيد، تألمت للخطأ في مدينة لا تتعاطى مع الأخطاء كثيراً، كما تألمت أكثر لكل من تضرر من الحادث.
كتبت يوماً أن دبي مدينة حالمة ترقد بهدوء وسكينة على ضفاف الخليج، دون أن تعبأ بجغرافيا المكان، وقد استطاعت أن تنتمي للعالم كله، وقد اختارت لها مقعداً في الصفوف الأولى بين الكبار؟!
عندما دلفت إلى الطائرة المتجهة إلى دبي كنت أستمتع باللهجة الإنجليزية، والكرم العربي، وطيبة أهل الإمارات، وأصالة أهل الخليج، كل ذلك كان يبدو واضحاً على محيا العاملين في طيران الإمارات، وبارزاً في تقاليد المكان، وبادياً في مهنية الطاقم.
لست مدّاحاً، ولا أحب المدّاحين ولا أهواهم، لكن في جذوري وتكويني أنه “لا يشكر الله من لا يشكر الناس”.
كانت دبي هي المحطة التي اقتادني إليها والدي ليعلمني كيف أكون حسناً إذا اخترت ما يليق بي دون أن أسيئ إلى غيري، في وقت ومكان لم يكن غير دبي يتيح لي فرصة الاختيار… فرصة أن تكون حسناً برغبتك، لا بقيادة الآخرين، وطيباً بمحض إرادتك، لا بسياط المجتمع.
كانت دبي هي الخيار الذي يقدم لي ولأبنائي، كيف نتواصل مع العالم كله بمحبة، دون أن نتنازل عن قيمنا أو عن أصالتنا، لذا اخترتها أنا وزوجتي قبل ثلاثة أعوام لتكون أماً لأطفالنا وحاضنة لنشأتهم. ها هي دبي، من جديد، تكرمني بجميل المشاعر، حتى وسط الغربة، وبعد غياب شهر عن عالمي العربي.
فيا أيها المنصفون: أتستكثرون عليّ أن أقول: شكراً دبي؟!.
جميع الحقوق محفوظة 2019