المثقف المتكامل… العمّار الشغوف… جابر الخواطر!
لكل بلادٍ مفاتيحُ يتيَسّر لَك بها معرفةُ شِعابِها، ودواخل شُعبها، وسيرة أمجادها. وأوّل المفاتيح رجالٌ تستطيع بمتابعة تراجِمهم أن تحيطَ بمجالات تميّز البلدان، وتتكامل بقصصهم بين يديك صورةُ حياة الشعوب، وإدراكُ خصائص الناس.
فما قولك بسيرةٍ واحدة، لرجلٍ تعرِف به مكة وتاريخها، وإعلاميّ يدلّك على سحر إعلام السعودية وريادته، وتاجِر استثنائي به تفهم سِّر تفوّق القطاع الخاص السعودي ورجاله.
إننا أمام رجل اجتمعت في عقله خيوط الفِكَر، وانطلقت من قلبه المبادرات فخلّده الاقتصاد الإنساني بالبركة، ويتذكره الإعلام بقنوات ART واقرأ، ويستحضره المفكرون عبر مبادئ إعمار الأرض وتشغيل الناس، وتحتفظ له شركاته، وعلى رأسها (دله) وبنوك البركة؛ بالاسم الذي لا يزول عن دنيا المال والأعمال، الشيخ صالح عبدالله كامل، رحمه الله.
الأسرة والبدايات: جذور وأوتاد وشجرة ظليلة وحنين لا يبيد
وَرِث صالح كامل، حزمةً من الطبقات والسِّمات والعناصر الاجتماعية المتداخلة؛ المال جزؤها الأضعف، ويعلوها العلم الذي يمثّله جدّه لأبيه الشيخ محمد إبراهيم كامل، نقيب علماء الحرم المكي. أما طبقة الجِد والصّرامة والتّفاني فيمثلها والده صفيّ الملك فيصل، ومساعده المأمون الشيخ عبدالله كامل.
انصقلت عصامية عبدالله والد صالح، حين اضطرته ظروف والده الصحية، إلى أن ينقطع عن زملائه في المدرسة؛ ليبدأ حياته مساعدًا لمطوّف، ثم بائعًا في دكانة للأقمشة، في أوقات الصباح، وفي المساء يجتمع إلى رفاقه، ليتعلّم ما فاته من الدروس، واستمر في ذلك إلى أن قرأ إعلانًا لوظيفةٍ حكومية، تأهّل لها، وترقّى فيها بفضل دِقّته وحرصه، حتى أصبح مرافقًا للأمير فيصل بن عبدالعزيز، يتنقّل معه من مقر النيابة العامة إلى الطائف صيفًا، ويعود معه في الشتاء، قبل أن يستقر إلى جانبه بالرياض عام 1954؛ متنعِّمًا بالثقة والحظوة، وباذلًا مهجة روحه لأجل الوطن.
في هزيع ليلة النصف من رجب عام 1360 (7 أغسطس /آب 1941)، أقبل صالح كامل، في بيتٍ بالطائف؛ بالقرب من قصر النيابة العامة، حيث كان يعمل والده، مع الأمير فيصل. كان صالح هو الطفل الثاني لوالده عبدالله، بعد ابنه حسن؛ وكلاهما تحمّل المسؤولية يافعًا، كشأن أسلافهما. ولكنّ صالحًا قال:
وإن جادَ قبلك قومٌ مضوا فإنّك في الكرم الأوّل
يُحِب صالح كامل أن يقصّ بداياته التجارية، من الطفولة برفقة أمه، ولعل بيعه -للبليلة- على رفاقه في الحارة، هي القصة الأثيرة، ولا يُدانيها لديه، سوى حكاية «بيع الكبوش»، والكبوش هي عظام تُؤخَذ من أقدام الخراف وتنظَّف، يُلعَب بها داخل دائرة تَرسُمها العظام، وتُضرَب من خارج الدائرة بحجرٍ مخصوص، والفائز هو من يُخرِج كبوش غيره، فالكبوش المُرَصّصَة لا تَخرج، وغير المرصّصَة تَخرج سريعًا. فكان صالح، وهو دون الثامنة من العمر؛ يصنع الكبوش المؤهلة للفوز، فينظِّفها ويرصِّصها ويبيعها. وكان ذلك أوّل رأسمال نقدي له، وأنفع رأسمال قيمي أنّه أصبح يهوى العمل، ولا يعرف أنّه عمل.
أضِف إلى المسؤوليات التي تعلّق بها صالح قبل أن تتعلّق به، أنّ والده عبدالله، لم يترك الطّوافة (خدمة الحجيج) مُذ بدأها، فبالإضافة إلى عمله في ديوان مجلس الوزراء، كان يفرّغ نفسه وأولاده في موسم الحج، ولا يصبح لهم عمل سوى خدمة الحجاج، فتشرّبت هذه المهنة مهجة صالح كامل وتشرّبها، فأنهى حياته وهو يحلم بأن يرى معهدًا للمطوّفين، فالطوافة عنده جامعةٌ لكل ضروب التجارة، وكان يشعر أنّ توفيقه في تجارته؛ يعود إلى مهاراتٍ اكتسبها من تلك المهنة.
المستمع المستمتع.. قنّاص الفرص
تعلّم كامل، بالمدرسة الفيصلية، اللغة العربية، والقرآن والتجويد والخطابة، فكان وهو في السنة الخامسة، يقرأ كتب المنفلوطي، ومجلاّت القاهرة المستوردة؛ بفضل عمّه عبدالسلام وجدته.
ولمّا درس المرحلة الإعدادية في مدرسة «تحضير البعثات» بمكة، بدأ نشاطه التجاري البدائي في الإعلام، بإصدار مجلة «مرآة تحضير البعثات»؛ وهي مجلة إذا عثرت على نسختها تفاجأت من مستوى بلاغتها، ورفعة حصرها للأحداث والنشاط الثقافي، كما أصدر مجلةً أخرى اسمها «ألوان».
وفي المدرسة النموذجية بجدة، ترَأس جمعية الكشافة؛ التي منحت شخصيته قُوّة، على قوّتها، وعزّزت فيه المهارات القيادية، فانفتح على المجتمع؛ لا بوصفه عضوًا نشطًا فحسب، وإنما بشخصيته المبادرة، وفي عمق المبادرة يأتي الاستثمار.
والاستثمار يكون فيما يحبه صالح، وليس لمجرد الربح، لقد كان استثماره في الشيء نابعًا من رغبةٍ في استدامته وتحويله إلى نهرٍ جارٍ!
وكان الرجل على قلقٍ كأنّ الريح تحته، ولكنه هو من يوجهها يمينًا أو شمالًا!
الجامعة من القاهرة إلى الرياض
سافر صالح كامل، في حدود عام 1959، إلى مصر لإكمال دراسة الجامعة؛ في كلية التجارة بجامعة القاهرة. وقضى فيها السنة الأولى؛ تعرّف خلالها على أسس الاقتصاد والمحاسبة، دارسًا على يدي أمهر الأساتذة؛ الذين سيبقى على اتصال بهم طوال عمره.
لم تنسلخ السنة الأولى إلا وقد تضافرت عوامل أعادته إلى السعودية، أوّل العوامل هو أنّ موسم الحج كان على الأبواب، وكما مرّ فإنّ الطوافة تقتضي وجوده بمكّة متفرغًا لخدمة الحجاج؛ إلى جانب والده وأشقائه، أمّا العامل الثاني، فهو توسُّع كليات جامعة الملك سعود، التي يديرها بالنيابة الشيخ ناصر المنقور (1930-2007)، الذي شجّعه على العودة إلى الرياض.
كثيرًا ما نقول إن الدفعات الأولى بجامعة الملك سعود، التي افتتحت في عام 1957، هي النواة الأولى للتكنوقراط المحترفين الذين سيبقى أثرهم في السعودية لأجيال، لذا فقد كانت محط اهتمام القيادة السياسية والثقافية في البلاد، وكانت هي المسرح الثقافي الحقيقي لكل مجتمع الرياض. وما إن عاد الطالب الثّري؛ صاحب السيارة الفارهة، حتى اختير سكرتيرًا لرابطة الطلاب في كلية التجارة؛ التي يرأسها المنقور مدير الجامعة نفسه. ولهذا سرعان ما توثّقت علاقات صالح بالأساتذة والوزراء الذين كانوا يزورون الجامعة ويشاركون في نشاطها؛ وعلى رأسهم عبدالرحمن أبا الخيل (1926-2021)، أحمد زكي يماني (1930-2021)، حسن مشاري (1930-2016)، وهشام ناظر (1932-2015).
في الجامعة، اتسعت دائرة معارف صالح كامل، وعلومه، فهو لا يكاد يتوقف عن النَّهل من كتب الثقافة العامة؛ وتَعَلُّمِ الفنون، حتى إنّه ليفوّت المحاضرات الرئيسيّة بسبب انشغاله بهواياته النافعة ونشاطاته الكشفية، أو بالمسرح الذي يدرّبهم عليه الوزير (لاحقًا) علي الشاعر، ويعلمهم فيه إخراج المسرحيات.
وكم ألقى صالح كامل كلمات الشكر نيابةً عن زملائه؛ على مسامع الضيوف، الذين كان يتقدمهم الأمير فهد بن عبدالعزيز (وزير المعارف آنذاك).
ولا يقل هذا التوسّع المعرفي، عن الاتساع في مجالات استثمارات صالح، فبالإضافة إلى مستلزمات الكشافة، نَبَهه احتياجه إلى مذكرات زملائه التي تغطي المحاضرات الفائتة، إلى فكرة التجارة في تصوير المذكرات، فأضحى ينسخها، ويطبعها، واستأجر لذلك عمّالًا وزملاءً.
كادت المذكرات أن تدخل صالحًا السجن، لأن نشاط المطبوعات مشبوه في ذلك الزمان المليء بالتّيارات؛ التي تستغل المطابع في توزيع منشوراتها، ولكنّ صالح كامل، حسم المخاوف يوم اقتحم مقرّ «عمر شمس»، مدير جهاز الاستخبارات بلطفه، وطلب منه أن يُعيّن لديه اثنان من الطبّاعين؛ ليوفّر له جودةً أعلى، من جهة، ويضمن السلامة لنفسه!
تخرّج صالح كامل في عام 1963، واتجه إلى العمل، فاستمع لنصيحة الوزير حسن المشاري، وكيل وزارة المالية والاقتصاد الوطني (حينها)، وانتقل إلى وزارة المالية، التي كانت تقود عمليّة تنموية واسعة، ليعمل ممثلًا ماليًا، وهي وظيفة تجعل منه ممثلًا ماليًا للوزارة في كل وزارة أو إدارة، فيُشرف على عمليات الإيراد والصرف؛ ويتثبت من أنها تسير طبقًا للنظم المقررة.
تبدو هذه الوظيفة وكأنّها صُمِّمَت لإثراء (معرفة) رجل الأعمال الصغير بالتفاصيل التي لا يمكن (معرفتها) إلا بالتّجربة، والممارسة، ليكبر ويستوعب كيف تُصْنع الأشياء. فقضى فيها عشر سنوات من عمره، زادت من معرفته بأمور الحياة، ومن رصيده في العلاقات والصداقات، إلى أن استقال ليتفرّغ لوليدته المدللة؛ «دله».
خلال هذه السنوات، لم يتوقف عقل التاجر عن البحث عن مشاريع مبتكرة، فكانَ أن لاحظ أنّ المطابخ في الرياض، لا تقدم ما كان يراه في جدّة، خصوصًا تلك التي تُعين على إقامة الولائم الفاخرة، فأنشأ مطبخه في الملز، ونَقَل الفكرة من جدة إلى الرياض.
مناقصة البريد الطوّاف وبداية «دله»
لم يكن صالح كامل قارئًا للأرقام والوثائق فحسب، بل كان يلاحظ حركة المجتمع وأفق الفرص المتاحة، فما دام يأنس في نفسه الكفاءة، فلماذا لا يتحرك باتجاه المستقبل وخدمة البلاد والعباد؟ وما دام قادرًا على ذلك المطلوب بجهده وجِده فلماذا لا يبلغه؟ ومن هنا نبعت فكرة البريد الطوّاف. لاحظ كامل أن القرى محرومة من وصول البريد إليها، ففكر بأن يقوم بتوصيله بخدمة يسميها البريد الطوّاف، فطلب من وزارة المواصلات أن تطرح مناقصة، وكتب لها المواصفات، ففتحوا باب التقديم للمناقصة، فدخل فيها ورَسَت عليه.
ودرس بقلمه ونظارته وجداول الضرب والقسمة، جدوى دله من أَلِفِها إلى يائها، ولإتمامها لم يترك قرية إلا ووصلها بقدميه، يقيس صرف البنزين، وإهلاك السيارات، والمسافات التي يقطعها! ولعله زار كل قرى السعودية لهذا الغرض.
بعدها، توالت المناقصات، وأتاح فوزه بعقد مدرسة الدفاع الجوي، السيولة، ومنح دله الثقة، بوصفها مؤسسة وطنية لديها المقدرة المالية والتقنية على مقارعة الشركات الأجنبية، وبأسعار تقل عن نصف ما كانت تطلبه هذه الشركات، ولما كان العقد الذي تقدمه دله تنافسيًا، فمن الصعب عليها أن تقوم بتعاقدات من الباطن، لذا اكتسبت خبرة شمولية في الأعمال، واكتفاءً ذاتيًا من جميع التخصصات المهنية.
أقام صالح الشراكات العالمية، وطوّر من مؤسساته وامتهن التدريب، وأطلق المشاريع تلو الأخرى، وكان الرجل يقوم على تفاصيل كل مشروعٍ تُنجزه شركته، حتى حاز شغفه بالعمل إعجاب المسؤولين والناس.
دخلت دلته لاحقًا في التحديات العمرانية ونجحت، فأنجزت مشروع بحيرة تونس المغامر، ومعجزة درة العروس بالرياض، والواجهة السياحية المميزة بجدة، وهي مشاريع يدخل الابتكار في تفاصيلها، وتخطيطها، ولصالح بصمته التي يتذكرها المهندسون.
الصيرفة المالية والتأمين.. الاستثمار في البركة
إلى جانب شركة «دله»، وقنوات ART، فإنّ العالم يعرف صالح كامل من بوابة رؤيته الاقتصادية، واهتمامه بمجموعة البنوك والصيرفة الإسلامية، والتأمين الإسلامي. ومنظومة القيم التي تمنع الفرد من أن يبيع ما لا يملك، ولهذا الباب قصة تطول.
فبدفعٍ من والدته والشيخ محمد متولي الشعراوي، بدأ صالح يدرس مبدأ المضاربة، برفقة بهجة خليل، مدير بنك القاهرة. وفي عام 1972 بدأ يُطبّق عقدًا ماليًّا جديدًا، بمعاونة الشعراوي. كانت النتيجة أن قامت مجموعة البركة، منذ عام 1973، بالعمل بطريقة المضاربة. ثم شارك الأمير محمد الفيصل، في إنشاء بنوك فيصل، والشيخ سعيد لوتاه في مشاريعه المشابهة، قبل أن يستقل كامل بإنشاء بنوك البركة القائمة إلى الآن.
لم يترك صالح كامل المشاريع على حالها، وإنما أخذ يطوّر في المسوَّدة الأولية، لنظام شركة التوفيق للصناديق الاستثمارية، والأمين للأوراق المالية، وغيرهما، حتى إنك لا تكاد تجد دولةً تخلو من التأمين الإسلامي وشركاته، بل ومن المتخصصين فيه، وليس التأمين وحده، بل شركات المساهمة والتمويل، وأنواع العقود الشرعية المتقدّمة، والصناديق الاستثمارية. وشكّل صالح شبكةً من الخبراء والباحثين، يجتمعون في ندوة البركة، وفي منتدياته، في تخصص دقيق ونادر!
كان صالح كامل، يبدأ صناعة الأعمال الكبرى، ثم يرسلها ليكملها زملاؤه وتلاميذه، وهكذا ينسج ضفائر وغدائر الجميلة «دله»، التي غدت اليوم تباهي العالم بعمار أبنائها وبناتها!
قطب الرحى في صناعة الإعلام
لم يكن اهتمام صالح كامل بالإعلام جديدًا، فقد استثمر في المجلات طالبًا، وعرف درب المسرح والكشافة، وارتبط بالصحافة بقلمه المرهف، وكتب افتتاحيات باسم رابطة طلاب كلية التجارة بجامعة الملك سعود، وفي زياراته للقاهرة؛ أنشأ شركات الإنتاج الإعلامي، حتى إنه اشترى أرشيفًا ضخمًا من التلفزيون القومي المصري، وأنقذه من التّلف؛ وفي بداية السبعينيات الميلادية، حصل على عقود مع وكالة التلفزيون المصري، ثم مع التلفزيون اللبناني والتلفزيون الأردني، فكان بذلك أول من اتّجه إلى الاستثمار الفعلي في هذا المجال، من خلال مؤسسة «دله» التجارية، وكان أوّل من أنتج بالألوان.
أنتج صالح كامل، منذ عام 1969 دُرَرَ المسلسلات العربية، وغدت شركته للإنتاج الإعلامي مدرسةً تخرّج فيها كبار كتّاب العالم العربي ومخرجوه؛ ثم دخلت الشركة العربية للإنتاج الإعلامي إلى المجال الإعلامي، بهدف خلق إعلامٍ يوائم بين الفنّ وقيمه، والمجتمع وجذوره.
كان الفتح الحقيقي الذي يسّر للرجل الأمور، وفتح له الدرب الأخضر ليمضي في مغامرته الجديدة، هو الدّعم المعتاد من ولاة الأمر، متمثلًا في رعاية الملك فهد بن عبدالعزيز لصالح كامل، وحنوّه عليه بالنّصيحة في عام 1987، ودعمه غير المحدود، وبخاصة لشراكة صالح كامل والوليد البراهيم التي تتكامل فيها جهودهما. كان دعم الملك، وحكمة الدولة، وهمّة صالح، وذكاء وليد، وراء ولادة العملاق الإعلامي الجديد mbc، وسرعان ما تواصل كامل مع البراهيم، ووقعا معًا، عقد تأسيس شراكة بالمناصفة، وانطلقت للبث، مستفيدة من مخزون صالح كامل الإنتاجي، ومضت الشراكة بنجاح إلى حين.
بعد مدة تهيّأ الزمان لميلاد جديد، ومغامرة متصلة من سلسلة مغامرات صالح كامل المدروسة، فتمخّض الزمان عن شبكة راديو وتلفزيون العرب ART، المتخصصة، التي كان مالكها صالح كامل يكرر دومًا أنها تهدف إلى إعلامٍ يحافظ على القيم وكيان العائلة.
تقدّم صالح كامل خطوة لشراء حقوق بث المباريات المحليّة وكأس العالم، واشتراها بملايين الدولارات، وجاء الآن ليبثها في قنواته المشفّرة، فبدأت الحرب الإعلامية عليه، كيف يبيع لنا ما كان مجانًا؟
بالتأكيد لا يمكنك أن تسأل الجموع الكبيرة من الجماهير، هل تعرفون كم دفع ليحصل عليها؟ فجوابهم لن يسرك! دافع كامل عن قراراته في بعض الأحيان، ولكنّه ركن إلى العفو والصمت في أحيان أخرى، يتأرجح بين الكلام والسكوت، ولسان حاله يقول:
خُذ العفو واغفر أيها المرء إنني
أرى الحِلمَ -ما لم تخش منقصةً- غُنما
قال له الملك عبدالله: أنت الهدية يا صالح
لقد منح الامتداد الإعلامي لشخصية صالح كامل، الكثير من المزايا، وكَمْ من مرة اجتمع مع رؤساء دول من أجل التعزيز الإعلامي، واستفادت من تجربته دول الخليج كلها، فجاء يُهديها ما لديه من خبرة في الإنتاج الإعلامي، وساهم في نجاح تجارب كثيرة.
ظلّ صالح كامل ينفي الأغراض السياسية، عن قنواته، وكانت هذه الأغراض، وبخاصة إذا اختلطت بالدين، تهدد أغلب القنوات؛ إلا أنّ صالحًا كان واضحًا وصريحًا، في ولائه للوطن. ولقي جهدُه دعمًا كبيرًا من قيادة بلاده، وفخرًا كبيرًا وفرحًا منهم، فعند زيارته مركز البث في روما، واستماعه للشّرح عن المشروع، وبعد أن تهيّأ صالح كامل لتقديم هدية تذكارية، قال الملك عبدالله بن عبدالعزيز له: «أيّ هدية يا صالح؟! أنت الهدية»! وعلى إثر ذلك كرّمه خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز، حين كان أميرًا للرياض، عام 1999.
العودة إلى العشق القديم
كان صالح كامل يضع أهدافه ويسعى لها، ويحوّل كل هدف ناقص إلى مشروع قديم يحييه بها. باع القنوات الرياضية، وحقوق كأس العالم، وأوكل الإعلام الباقي إلى من درّبه من الأبناء والخبراء، ومضى بهدوء نحو التقاعد، ولكنّه أطلق قنوات اقرأ بلغاتٍ شتى، وبقي يشرف عليها. وقدّم برنامجًا اسمه (السوق)، شرح فيه رؤيته الاقتصادية، وكأنه زكاة علمه وتجربته.
ثم عاد صاحب الشوق القديم إلى هواه، وبداياته الأولى؛ حيث القلم والمطابع والحبر، والتفكُّر الطويل في التراث والمعاصرة والقيم الحضارية، ولسان حاله يصدّق، يقول:
وَذو الشَوقِ القَديمِ وَإِن تَعَزّى مَشوقٌ حينَ يَلقى العاشِقينا
كتب صالح كامل في أغلب الصحف السعودية، ورواها بمداده وأفكاره، وساهم في مجالس إدارتها، حتى إنه صار من أهم الناشرين العرب، فالمساهمات من هذا النوع لا تنقضي، وصالح كامل لا يتردد في المساهمة بحصة في أية مؤسسة صحافية، ولا يتأخر عن وضع سهمه في أيَّما مؤسسة تنشر نتاجًا للتثقيف والرأي. ساهم في إعادة إصدار (الوطن)، وشارك في مؤسسة عسير للصحافة والنشر، ولكنّ اسمه ارتبط بصحيفة (مكة)؛ التي أحيا بها ندوة مكة، وظلّ ينفخ في روحها بقوّة، إلى آخر يوم في عمره.
كان صالح كامل يحقق حضورًا بارزًا، وإسهامًا مهمًا، في مختلف المسارات الإعلامية… من المجلات، إلى الصحف، والإذاعات، والتلفزيونات، وشبكات الإنتاج، وإعادة بث الحقوق، فالرجل يمزج حب الإعلام والثقافة والقِيَم بنظرةٍ إلى المستقبل ويندفع نحوها، ويترك السؤالَ، ليس إلى أين يسير، وإنما ما الذي يدفعه بهذه القوة، ومن أين يستمد كل هذه الطاقة، التي ظن كثيرون أنها تتعب جسده، لكنها كانت تريح نفسه، وتغذي عقله.
كان في هِمّة الشباب، المضافة دومًا إلى حكمة الشيوخ:
يروع رَكانةً ويذوب ظرَفا.. فما ندري أشيخ أم غلام؟!
ترك صالح كامل مئات الساعات التلفزيونية، ومئات المقالات، وعشرات المحاضرات، وخَلَّدَ بصمته في دنيا الإعلام، ولكنّه لم يقل كل ما أراد أن يقول، ولم يفعل إلا بعض ما فكّر فيه!
البر والإحسان والتواضع والرحيل
العائلة هي السر الأثير الذي يُسِّهل إدراك قيمته، فهم أعمال صالح كامل. إنها الأنموذج التي بسببها يضخ أفكاره، فالعائلة هي المنبع عنده؛ وهي المصب أيضًا.
في آخر سنوات عمره، انصرف صالح كامل إلى تكثيف العمل الجماعي، في الغرفة التجارية بجدة، والغرفة التجارية لدول مجلس التعاون، والغرفة التجارية للعالم العربي، وراح يشرف على تحويل رؤاه إلى خطط تنموية في رحلات مكوكية، بمشاريع استثمارية، فيصنع فكرة بورصة عقارية تارة، ويطرح فكرة المصفق تارةً أخرى، وينثر بينهما التأملات.
وفي آخر سنوات عمره، وفي رمضان 2020، هاتفني -رحمه الله- مباركًا برمضان، فقلت له: «الحق لك يا عم صالح، لكنك سبّاق إلى الفضائل»، فقال: «والأب يبارك لابنه»! وفي جائحة كورونا، وبعد رفع الحظر الجوي، تواصل معي طوال الأسبوعين الأولين من رمضان، لتسهيل عودة شابين سعوديين إلى الوطن، وهما كانا مريضين بأمراض مزمنة ويقيمان بالإمارات، ولأنّ إجلاء أول الطائرات، الذي رتبته الدولة لم يكن لمدينتيهما، تكفّل رحمه الله، بقيمة طائرة خاصة نقلتهما لمدينتهما مباشرة.
رحل الرجل في رمضان إلى جوار ربه الكريم، بعد أنّ صلّى تراويحه الأخيرة، وتوسّد الأرض بهدوء وتواضع، طاويًا صفحةً من الفضائل، نرجو أن يجدها في كتابه يوم النشور، وهو الذي يؤمن أن للنجاح عناصر ثلاثة: أن تعرف نفسك، وأن تُرضي والديك، فتُرضي ربك!
كان صالح كامل، هالةً من المحبة، قد تختلف مع رؤيته، أو ترى زوايا غير التي يراها، لكنك لا تملك إلا أن تحترمه… رحمه الله رحمة واسعة.