القراء الكرام، نعود اليوم، لنقف على جزءٍ ثانٍ من نوادر التراث. ومما تعارف البشرُ عليه، أن الخبر كُلّما اتسعت دائرة غرابته، قلل ذلك من احتماليات تصديقه، وإن كان صدقاً. فالناس تنفر من تصديق الظواهر غير الاعتيادية، لأنها قد تعيش حياتها دون أن تصادف واحدة من هذه الظواهر رأي العين، إضافة إلى أن السلوك البشري، في الغالب يميل إلى التصرف بطبيعية في الحياة اليومية، حتى يُقَدِّر الله لأسلاكٍ في عقل شخص ما، فتلتمس وتفسد، فيصبح الأصل عند صاحبنا (مضروب الأسلاك)، هو الخروج عن المألوف!
هذا إذا استبان المعروف أصلاً، عياذاً بالله. ورغم مضي نحو ربع قرن، على رحيل الأستاذ عبدالسلام هارون، مؤلف: (كُنَّاشَةَ النوادر)، إلا أنه أورد بعد سنوات بحثه الطوال، وغوصه بين المخطوطات والكتب والأوراق، غرائب ما مرّ عليه، ومنها موضوع عن جراحات التجميل. فالقصة التي وقف عليها، يبدو أنها أول جراحة تجميل في العالم، فقال: جاء في ترجمة الصحابي الجليل، المقداد بن الأسود الكندي، أنه كان عظيم البطن، وكان له غلام رومي، فقال له: اشق بطنك فأخرج شيئا من شحمه حتى تلطف- أي تصير رشيقاً – فَشَقَ بطنه. ثم خاطه. فمات المقداد، وهرب الغلام.
ولعل هذا أول تفكير في جراحة البطن للتجميل نسمع به في عالمنا العربي القديم الذي سبق العالم الغربي في كثير من أمهات الحضارة. قُلتُ: على السادة الأطباء الذين حولوا تخصصاتهم من الباطنية والمناظير وكل الاختصاصات الأخرى، باتجاه عمليات التكميم والتحوير والتقوير والتدبيس وأخواتهن، طلباً للأرباح الهائلة التي نستعد لإنفاقها، طالما ستريحنا من الشحوم المتراكمة والبطون المترهلة، لتذهب الأموال لأطباء تجميل إزالة السمنة، ويجب على هؤلاء السادة الأطباء، أن يدشنوا صندوقاً وقفياً للغلام الرومي، الذي علَّق الجَرس، ونقلهم إلى مستويات من الرفاهية. وبالمناسبة، هروب الغلام الرومي، لا يعني اختفاءه. حسابه البنكي عندي، ومن كان منكم صادقاً، فليطلب آيبان الغلام الرومي، الذي فتح لكم أبواب هذه العمليات التي لا تتوقف.
بالمناسبة، عمليات التجميل أيها الكرام، تحولت لتكون جزءًا أصيلاً من ثقافات بعض الشعوب، ولا زلتُ مشدوها من زيارتي لدولة عربية قبل عقدين، عندما شاهدت إعلانات بنكية على لوحات الطرقات، تقدم تمويلاً بالأقساط لمن أرادت إجراء عملية تجميلية، دون أن تقع في حرج إنفاق دخلها الشهري كله. وربما لبضعة أشهر. أجرةً لعملية تجميل. البنوك تساعد على الجمال، ومستعدة لتمويله، وبالتقسيط المريح!
لستُ بصدد الاستهزاء من أنصار عمليات التجميل، لكني أعود للتذكير بأن أنماط الحياة الاجتماعية، في كل بيئة، تخوض عمليات فرز طويلة وشاقة، مُعلَنة أحياناً، ومسكوت عنها أحايين، ينتج عنها، بوعيٍ أو بلا وعي، ما يُعتبر ضمن المسموح به ثقافياً، وربما المسكوت عنه في البداية.
فكم من الكماليات في مجتمعات أخرى، يُتَعَامَلُ معها على أنها أولى الضروريات، والعاقل من يشاهد عيوبه، أكثر من عيوب غيره. ثم يَقِف الأستاذ هارون على معلومة تعود لما يزيد على ألف سنة، والمؤسف أنها شغلت مجتمعاتنا بالتوقف عندها، طويلاً، والخصام عليها والتشاحن والتباغض، حتى كأن وقوفنا عندها زاد على الألف عام، يقول: «وجدتُ الاحتفال بأعياد الميلاد قديماً، قبل سنة 209، وعلى صورة رائعة، غير ما نشهده اليوم. قال المبرد: كان سعيد بن سَلْم، إذا استقبل السنة التي يستقبل فيها عدد سِنيه، أعتَق نَسَمة، وتصدق بعشرة آلاف درهم. فقيل للمديني: إن سعيد بن سلم يشتري نفسه من ربه بعشرة آلاف درهم.
فقال المديني: إذن لا يبيعه. وكانت وفاة سعيد بن سلم بن قتيبة الباهلي سنة 209 هـ، كما في النجوم الزاهرة». أختم أيها الفضلاء، بسؤال أوجهه لنفسي قبل غيري: كم من القصص التي اقتتلنا عليها قبل أعوام، ثم تنازل المتنازعون عن آرائهم اليوم، ولم يبقَ إلا آثار الخلاف، وبقايا الصراع، وألم شجار الإخوة على قضايا تافهة، وإذا أردنا أن نحشمها، وصفناها بأنها سطحية وهامشية!
*السفير السعودي لدى الإمارات