خلال الأسبوع الماضي برزت “العلمانية” كرؤية لإدارة الواقع كثيراً. قرأناها في أحداث متعددة. في أوروبا، علمانية فرنسا تعاقب محجبة، أصرّت على قيادة السيارة وهي مرتديةً النقاب (23-4-2010). في هولندا رفض صارم لطلب المسلمين إقامة محكمة شرعية خاصة بهم (25-4-2010). “العلمانية” ليست مفهوماً موحداً، حتى التعريف ليس ثابتاً وشمولياً؛ العلمانية عبارة عن: “استراتيجية لإبعاد الدين عن مجالات الدنيا، حفاظاً على الدين والدنيا”. العلمانية ليست مؤامرة لضرب الدين. الكثير من المجتمعات العلمانية مجتمعات لها طقوسها الدينية. لهذا فإن الممارسات التي اتخذتها أوروبا مؤخراً تجاه الرمزية الدينية، هي ممارسات تنسجم والمفهوم العلماني الذي تسير عليه. إنها ليست خطة لضرب المسلمين. رأيتُ بنفسي الحريات الكبيرة الممنوحة للمسلمين في أوروبا. لكن بصراحة نحن في بعض مطالباتنا كأننا نريد أن نؤسلم أوروبا، وأن نطلب منها التخلي عن هويتها المدنية، وعن النظام الذي تدير من خلاله الواقع، وهو نظام نضج على مدى قرون. قامت بعض المفاهيم -التي تعتبر صمامات أمان للمدنية الأوروبية -على أكوام من الجثث والقتلى. الإنسان لا يمكنه أن يستوعب درساً إلا إذا رأى نتيجة. كانت نتائج التعصب أن نشبت الحرب التاريخية في أوروبا في الفترة (1618-1648) بين الكاثوليك والبروتستانت، وهي الحرب التي عرفت بـ”حرب الثلاثين عاماً”، تلك الحرب الطائفية الأهلية البشعة هي التي فتحت أعين الأوروبيين على نقد الذات والدخول إلى عتبة العلمانية المحضة. لهذا فإنني أتفق مع أن بعض المجتمعات تحتاج إلى العلمانية كحلّ حقيقي وجذري لمعضلة الطائفية. رشيد الخيون يرى أن: “لا حلّ للعراق ولا نجاة له من براثن الطائفية إلا بالعلمانية”. وفي لبنان، ينشط الحديث عن “إلغاء الطائفية بالتدريج”، وهو المشروع الذي طرحه نبيه بري، وتحدث عنه، قبل أيام، ميشيل عون. امتدّت الرؤية لعلمنة الواقع اللبناني لتتجسد بمظاهرة قامت عليها مؤسسات المجتمع المدني في لبنان في (25-4-2010) من بين أهدافها: “تطبيق الدستور اللبناني، واحترام الرأي والمعتقد، والعدالة الاجتماعية، والمساواة في الحقوق والواجبات بين جميع المواطنين من دون تمييز أو تفضيل”. وتدعو مسيرة العلمانيين اللبنانيين إلى: “الاتحاد والعمل على القضاء على النظام الطائفي في البلاد، الذي يقسم المجتمع اللبناني إلى طوائف متناحرة”. ويقول منظموها إن “الوقت قد حان لإعادة تعريف ما يعني أن يكون اللبناني لبنانياً”. ويشيرون في هذا الصدد إلى واقع”أن المواطنة اللبنانية تأتي في المرتبة الثانية بعد الدين، كالإسلام والمسيحية، وبين المذهبية الإسلامية كالسنة والشيعة، أو المسيحية كالكاثوليك والأرثوذوكس”. لقد كان مميزاً ما كتبه د. محمد جابر الأنصاري بعنوان: “هل تستحق العلمانية كل هذه القشعريرة لدى معارضيها؟”(22-4-2010) أشار فيه إلى أن “من مظاهر ذلك الضعف من الناحية المعنوية، أن بعض المفكرين المسلمين بدل أن يدرسوا “العلمانية”، كمصطلح ومفهوم قابل للتفكيك والنقد، نجدهم من موقع انعدام الثقة بأنفسـهم وبعقيدتهم، يشنون عليها حرباً شعواء لا تبقي ولا تذر حتى ذرةً من المعرفة والموضوعية واحترام العقل! وتصل إلى حد الإصابة بالقشعريرة”. يتحدث المفكر البحريني صاحب الكتاب المرجع: “الفكر العربي وصراع الأضداد” عن قشعريرة غير مبررة تجاه مصطلح تعرض للتشويه. مع أنه مفهوم مدني بحت. العلمانية ليست أيديولوجيا، ليست مجموعة من الأفكار، بل هي مفهوم لتنظيم إدارة الواقع. نحن لسنا أمام علمانية واحدة. هناك علمانيات متعددة. علمانية تركيا، علمانية تونس، علمانية فرنسا، علمانية ألمانيا، كل تلك العلمانيات تختلف عن بعضها البعض حسب التطبيق، وحسب الثقافة التي يتحرك داخلها المفهوم. إنها ليست حرباً على الإسلام، بل مجرد مفهوم مقترح يمكن دراسته وتأمله، أو حتى نقده.
جميع الحقوق محفوظة 2019