المتابع للسياسة هذه الأيام سيشاهد الكثير من العنتريات والقليل من السياسة، ذلك أن الأخبار تنضح بالتصريحات اللاهبة، لكنها جعجعة من دون طحن. في العراق أو لبنان أو إيران نرى هذه العنتريات واضحةً جليّة. وفي العالم الثالث بعامةٍ لا نجد “فنّ الحكم” إلا قليلاً، لأن السياسة وإدارة شؤون الناس فنّ من الفنون، وليس حديداً وسجناً وناراً. هناك أسماء حكمت شعوبها بالسياسة والفن، نستشهد بنماذج من التاريخ الإسلامي وصولاً إلى العصر الحاضر. حتى في العالم العربي هناك ساسة يتعاملون مع شعوبهم بفنّ، لكنهم للأسف قلة، وهذا مما يشعرنا بالخوف والإحباط. في معرض اطلاعي على كتاب “أوقفوا الحرب-إزالة النزاع في العصر النووي” للكاتبين: روبرت هندي وجوزيف رتبلات” استدل على نموذج فنّ السياسة بنيلسون مانديلا حينما قال: “مثلما يمكن للقادة الضالين وذوي الأطماع أن يقودوا إلى النزاع والعنف، كذلك يمكن تماماً للقيادة الحكيمة أن تعترف بالمطالب المشروعة الضرورية للسلام، لكلّ الأطراف في النزاع وتظهر هذه الحالة بخاصةٍ عند الانتقال من الحكم الاستبدادي إلى الديمقراطية”. ثم يضيف: “لا يمكن إيجاد مثالٍ أوضح من انتقال جمهورية جنوب أفريقيا من سياسة التمييز العنصري إلى الديمقراطية. توقّع الكثيرون أنه لا مفرّ من إراقة الدماء أمام إنكار فوز الأغلبية غير البيضاء بالتمثيل وسيطرتها عليه، الأمر الذي دام طويلاً”. أسست الحكومات العسكرية في العالم الثالث إلى بدعة الحكم بالحديد والنار، فامتلأت السجون بكل الذين ينطقون بنقدٍ أو اعتراض على سير الحكم، وهو تكرار لطغيان تجرّع الناس في تاريخنا العربي مرارته، ولننقل عن مؤرخ تاريخ العذاب في الفكر والتراث الإسلامي الباحث: عبود الشالجي حين قال: “ألوان من العذاب يقشعر البدن عند تصورها، ويحتبس اللسان عند ذكرها، ويرتعش العلم عند إثباتها وتدوينها، يذكرها هذا الكتاب، وكلها تدل على مقدار ما في بعض الناس من وحشية لا يتدنى إليها حيوان الغاب، وفي الكتاب قصص من التاريخ القديم والحديث تروي ما لاقاه البعض من العذاب والتنكيل، كما وفيه شرح لبعض المصطلحات القديمة المستعملة في التعذيب… كل ذلك ساقه الباحث بأسلوب قصصي سهل مبسط يعتمد على الروايات التاريخية القديمة المتناقلة عبر الألسن”. أرّخ الشالجي للطغيان في التعذيب في التاريخ العربي والإسلامي عبر َمجلدات سبعة، وكانت الأكثر ثراءً لبيان ذلك التاريخ الأسود والمظلم الذي افتقر إلى “فنّ الحكم”. وإذا كان لي من شهادة فإنني أعترف أن الخليج بحكّام دوله الذين هم جزء من الشعب وأحد التركيبات الاجتماعية الأساسية من أكثر الساسة العرب حنكة وآداءً لفنّ الحكم. وقد اطلعتُ قبل أيام على مقاطع كثيرة عن الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان وكيف كان واحداً من الشعب، يحث بقية الشيوخ وحكّام الإمارات السبع على العدل والحرص على حماية وحراسة المجتمع، وكان يتساءل “كيف يمكن أن يكون هناك مواطن لا يمتلك بيتاً”. كان ينطق بنبرةٍ حنونة عفوية تنبض بفنون الحكم وسلاسة السياسة. على الضفة الأخرى نعثر على تواريخ سوداء لا يمكننا أن نعرضها لحساسيتها. تتعلق بمستوى انعدام العدالة وانتشار السجون. لهذا فلا أقلّ من أن نفخر بأننا في الخليج ومع انتشار كبير للعنتريات السياسية ننعم بمساحةٍ من الوعي والعدل الذي يمارسه الحكّام الخليجيون تجاه شعوبهم.
جميع الحقوق محفوظة 2019