ما هو الفرق، بين الرسالة المكتوبة، بخط اليد، ورسالة أخرى، تراها على شاشة هاتفك، أو كومبيوترك، وأنت تشربُ قهوتَك الصباحية؟!
نقرة واحدة على الشاشة – اليوم – تكفي، لتفتح أبواب النار على نفسك!
كم من المديرين التنفيذيين، يرتعب وترعب زوجته وأطفاله كذلك، من تهديد فتح البريد الإلكتروني للرد على بعض الرسائل؟
أعود بالخيال لزمن الرسائل المكتوبة بخط اليد، المغلَّفة بالحب، والقاطعة مسافاتٍ وبحاراً، كي تستقرَ أمام عين المقصود. المرسل إليه بذاته، لا رسالة بالخطأ، أو ضمن من لا تعرفهم، ولا يعرفونك.
إن ذاتية الرسالة المكتوبة بخط اليد، تجبر كل الحواس، على الاستعداد والتركيز، قبل أن تفتح!
ما زلت أحبُّ الكتابة بيدي، لأبي، وإخواني، وأصدقاء العمر، الذين أشتاقهم، حيناً بعد حين.
أعرف أنني، ولو كانت رسالتي لا تتجاوز السطرين، إلا أنها تعبر جيداً، وبصدق عني، وعن إحساسي الحقيقي، في تلك اللحظة، لذلك الشخص، وليس سراً، ولست وحيداً كذلك، في هواية جمع الرسائل المكتوبة بخط اليد، وفرزها، بل واعتبارها إرثاً عائلياً خالصاً، يوثق عرى المحبة جيلاً بعد جيل، ولا أعجب من تأثير خط اليد على الروح، بغض النظر عن جودة الخط أو رداءته، فخط اليد بصمة، كالصوت، وقبلة، قد تحصل بالنظرة، دون اللمس.
غطتْ لنا الأغاني العربية، الكثير من المشاعر، التي تحملها الرسائل، وينقلها ساعي البريد، فمن التغني بوصول الساعي، إلى البكاء على فقدان الرسالة، أو التي ردت لمرسلها، مروراً بشكل المحبوبة قبل وأثناء وبعد قراءة الرسالة.
لقد تفنَّن نزار قباني، في رسم لحظتين، من لحظات الرسائل، حين قال:
يا أنتَ… يا ساعي البريد… ببابنا، هل من خطابْ؟
ويقهقه الرجل العجوز…
ويختفي بين الشعابْ…
وأخرى، قد لا يفهمها مواليد الإيميل، والتواصل الاجتماعي، دون تقليل من قيمتهم، يعلم أبناء جيلي، كم نحن محسودون، على الإحساس، بالصورة النزارية، التي اندثرت في عصر السرعة المجنون.
أنا قبل إنْ كان الجوابْ…
طيبانِ لي…
طيبُ الحروف، وطيبُ كاتبةِ الكتاب…
أطفو على الحرف الذي صلَّى على يدِها وتابْ…
خطٌ…
من الضوء النحيت…
فكل فاصلةٍ شهابْ…
هذا غلافي – لا أشك –
يرفُّ مجروح العتابْ…
عنوان منزلنا المغمسِ بالسحابْ…
عنواننا…
عند النجوم الحافياتِ…
على الهضاب…
****
بعيداً عن الأغاني والغزليات، كنت أسأل نفسي، عن أغرب رسائل البريد التي غيَّرت من شكل كوكبنا اليوم، ولم أصلْ إلى البيت، إلا وقد وجدت رسالة من ثماني كلمات فقط، بعد الترجمة، رسالة واحدة أنقذت ملايين البشر، وأزعم أنها ستستمر في إنقاذ البشرية، لسنين مقبلة، وهي من النوع الذي تكتبه أمٌ متعلمة لابن ذكي، ولا ترسلها مباشرة لابنها، بل لزوجته في الليلة التي تسبق زواجهما!
كتبت ماري ماكسويل – الراحلة في يونيو (حزيران) 1994، بعد أن قضت ثمانية عشر عاماً في مجلس حكماء جامعة واشنطن – إلى ميليندا – التي ستصبح زوجة ابنها، بعد قراءة الرسالة: «من أولئك الذين يتم منحهم الكثير، يتوقع الكثير»!
بالطبع لم تقصد الحماة أن تمنَّ على زوجة ابنها بحظها الذي سيجعلها لاحقاً زوجة أغنى أغنياء الأرض، لكن الأم التي كانت تحارب سرطان الثدي، وقت كتابة السطر العبقري، كانت تعرف ذكاء ابنها، الذي ربَّته صغيراً، ورأت بنفسها نبوغه المبكر، حين كانت تتركه مع الكتب والكلمات، استغرق الأمر طويلاً لتصبح اللغة بين الأم والابن، بهذا الاختزال العجيب!
يا للبلاغة التي ستثمر حقاً في بيل غيتس!
بعد ستة أعوام من تلك الرسالة، القصيرة، الدافئة، المبهمة، المفتوحة على كل الاحتمالات، أنشأ بيل غيتس وزوجته ميليندا، مؤسستهما الخيرية، التي نعرف أنها تُعنى بتمويل وتحسين الرعاية الصحية، والقضاء على الفقر في أسوأ مناطق العالم، ظروفاً معيشية.
بلغت أصول المؤسسة، أكثر من 34.6 مليار دولار، وانشغل الاثنان بالتعلم من جديد، كما تقول ميليندا، في كتابها الجديد: «لحظة الصعود: كيف يساهم تمكين المرأة في تغيير العالم»، ويؤكد بيل مندهشاً من جهله، بتواضع عجيب: «قبل 10 سنوات، كنا ساذجين للغاية… تصورنا أن دورنا هو الاستثمار في التطوير والبحث العلمي، لابتكار منتجات جديدة، في مجالات الرعاية الصحية والتعليم، وغيرهما… كنا نعتقد أن تلك المنتجات ستجد طريقها بسهولة إلى المحتاجين».
بعد أن تورط الزوجان، بوصية الأم العظيمة، ماري ماكسويل، أعادا اكتشاف أنفسهما من جديد. الجيد أنهما استفادا جيداً، من خلفية بيل في «مايكروسوفت»، وكون ميليندا خريجة إدارة أعمال، فقد أفادا من خلفياتهما لتجاوز الكثير، لكن الانتقال من عالم الحواسيب، إلى دنيا شلل الأطفال، والملاريا، لم يكن أبداً باليسير. بيل يقول بنفسه: «كان علينا التركيز بشكل أكبر، على الإدارة، والسياسة، والنظم الصحية، لضمان وصول منتجاتنا الجديدة إلى أكبر عدد من المحتاجين… وهذا ما تبنيناه في مساعي القضاء على مرض شلل الأطفال، في الدول التي لا تزال تعاني منه، وعلى رأسها نيجيريا»، ليبدأ بجمع المعلومات – وتلك مهمة الدول لا المحسنين، لكن وصية الأم، كانت تطل برأسها في كل حين، فبدأ بجمع البيانات، ثم بتدريب السكان المحليين، وتطوير آليات حفظ المطاعيم، وتطوير اللقاحات.
تخيل عزيزي القارئ، أن صاحبنا الذي عرفناه بنظارته وقمصانه البسيطة، تبرع بعشرة ملايين دولار لتمويل الموز، المعدل وراثياً المعزز بفيتامين أ – بعد أن وجه العلماء بتعزيز الفيتامين أ في الموز كونه أساسياً في أغلب جهات أفريقيا – لتفادي حالات العمى، وضعف المناعة، التي يسببها نقص الفيتامين في غذاء الفقراء!
عندما تخيلت الموز المُطَعّم بالفيتامين أ، تذكرت الراضي العباسي، حين يقول:
لا تعذلوا كرمي على الإسراف
ربح المحامدِ متجرُ الأشرافِ
إني من القوم الذين أكفُّهم
معتادة الإتلاف والإخلافِ
حتى بعد عمر طويل، ستبقى رسالة الأم العظيمة، تكبر يوماً بعد يوم، فقد انضم لقافلة المحسنين – مع بيل وميليندا، وارين بافيت، ومؤسس «فيسبوك» مارك زوكربيرغ، وكثير من المؤمنين بحكمة الأمهات – أولئك المتفقون «أن العالم ينتظر الكثير… ممن أخذوا الكثير»!