الترفيه صناعة قديمة ترتبط بالإنسان منذ القدم. يخطئ البعض حين يربط بين الترفيه والرخاء، إذ ليس بين الأمرين تلازم في المسار، فيمكن للمجتمعات أن ترفّه عن نفسها حتى في وقت الحروب، وهذا واضح في «أثينا»، حيث الترفيه لم يكن مرتبطًا بأوقات السلم أو الرخاء، بل كانت علاقته صميمة بالإنسان نفسه وبوجوده، فهو مثل الهواء الذي يُتنفس. وهنا أشير إلى نصّ مهم للباحثة والفيلسوفة حنة أرندت التي توصّف الترفيه والمدن بقولها إن الترفيه: «لم ينتج عن وقت فراغ حفظًا من العمل الشاق»، ثم تشير إلى ارتباط الترفيه بالاقتناع بالحياة اليومية، كما في العصر الكلاسيكي اليوناني، وتحذّر من تحوّله إلى نمط استهلاك.
الترفيه صناعة متكاملة تؤسس للتقوى الاجتماعية، وتدعم الاستقرار السياسي، ذلك أن أي مجتمع ينقص فيه الترفيه يكون مظنّة للجريمة وانتشارها، وتشوّه الحياة واضطرابها، وتغوّل التوحش في النفوس، بدلاً من السخاء النفسي والروحي المرتبط بالفنون والجماليات والضحك والفرح بكل أشكاله وألوانه. والصناعة هذه وجدت لدى مجتمعات لا تعيش الرخاء، مثل دول أفريقية وأخرى في آسيا، بل إن صناعة الترفيه في الصين لا مثيل لها، مقارنةً بالظروف التاريخية التي عاشها ذلك المجتمع. أما في السعودية، فلدينا كل الإمكانيات لصناعة الترفيه الخلاّق المسبب للتوق نحو الحياة والانشغال بها والتمتع بطيباتها.
إن عودة الحفلات الغنائية في السعودية تعيدنا إلى صلب موضوع الترفيه المعتنى به تنمويًا من خلال رؤية 2030، والمرعي سياسيًا عبر تأسيس هيئة الترفيه.
لا معنى لتأجيل الترفيه لحين انتهاء الحروب من المجتمعات، أو التمتع باستقرار مطلق، هذا ممتنع موضوعيًا، وليس له مبرره، بل إن الترفيه يساعد المجتمعات على تجاوز الأزمات والاضطرابات، ويقلل من مستوى التأثر بها، بل إن المجتمع المتعاون على الترفيه أقدر مواجهةً للصعوبات من غيره، لما يحققه من اجتماع تعاقدي متكامل تجاه المشروعية الترفيهية عبر المسارح والحفلات الغنائية والعروض الكوميدية والرسم وشتى أصناف الفنون وأنماط الترفيه المتعددة.
بتحوّل الترفيه إلى صناعة، تغدو المهمة سهلة، إذ لا حاجة حينها لانقطاعاتٍ في الأنشطة لا مسبب لها، بل تكون ضمن برامج مترابطة مدعومة اقتصاديًا وسياسيًا، وهذا دور الهيئة في المستقبل؛ أن توجد بنية تحتية نظامية واقتصادية وبشرية لصنع الترفيه بالمجتمع، وتحويله إلى عمل يومي غير متكلف.
صحيح أنه لا يمكن إجبار الجميع على هذه المشاريع، لكن لا يحق لأحدٍ نزع الحقّ من أحد، ومعلوم أن الحقّ بمعناه القانوني أصيل للإنسان في الترفيه، بل إن الحقّ فيه لا يقلّ عن حقّ الإنسان في الحياة والعمل والعيش والوطن.
مسؤولية الدول أن ترعى الترفيه، وقد وعت القيادة السعودية بذلك، وجاء تعبير ولي ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان عفويًا عندما وصف انعدام الترفيه بالمجتمع السعودي بـ«غير المعقول»، وهذا صحيح بدليل أن البرامج المعروضة للمجتمع شحيحة؛ بضع مسرحيات متواضعة بالأعياد، وحفلات غنائية منقطعة من دون سبب منذ 11 عامًا. أحسب أن الخلل المفهومي حدث بربط الترفيه بحالة الرخاء، بل على العكس يمكننا الفرح والغناء حتى في أصعب الظروف والمناطق والأماكن، وهذا هو دأب الإنسان الذي يرقص في الحرب تحفيزًا، وبعد الحرب فرحًا بالنصر، ويصنع سلواه وغناه مهما كانت الظروف.
لحسن الحظ عودة التوهّج لثقافة الفرح، وذلك بدعمٍ رسمي، لأن هذا التوجّه يعزز من محبّة الناس لأوطانهم، ويخفف عن كواهلهم أعباء السفر لأجل مسرحية أو أغنية، ويجعل الصرف المادي الكبير داخل الوطن لا خارجه، كما يعزز الترفيه من الاستقرار المجتمعي المهم سياسيًا، في ظلّ انتشار التطرف والعنف، وتسيّد أخبار الجريمة، وهذا أساس الدعوة الحقيقة والثقافية والفكرية إلى أن نحوّل الترفيه إلى صناعة متكاملة، والسعوديون قادرون على ذلك، في مجتمعٍ يحبّ النكتة ويصنعها باحترافية لا تُبارى، وتاريخه مليء بالموسيقى وألوانها، والرقصات وأصنافها.
جميع الحقوق محفوظة 2019