حفلت إدارة مقاطعة الدنمرك ومنتجاتها، غضبة على نشر صحيفة هناك رسوماً كاريكاتورية تصور النبي صلى الله عليه وسلم بشكل لا يليق، بالكثير من المفارقات الغريبة·
تلقيت عشرات الرسائل على هاتفي المتنقل، في خضم النقع المثار، على حوافر تفاعل الشارع، بشكل انفعالي مع القضية· بعض الرسائل كان مضحكاً، وغير بعيد عن ذلك أن قوائم المقاطعة حفلت بمنتجات سويسرية، وهولندية، واسترالية، ونيوزيلندية، خلافاً لكوني أشرت في المقال السابق إلى أن المقاطعة في فكرتها الأصلية هي من التعسف في الرد على الفعل المرفوض أصلاً، لأن المتضرر منها هم أشخاص لا علاقة لهم بمصدر الإساءة في جناب المصطفى عليه السلام·
سأقول أولاً، إنني على الصعيد الشخصي لا أهتم كثيراً بالمنتجات الدنمركية، ولستُ متعلقاً بها، وليس لي مصلحة في كوبنهاجن ولا في مثيلاتها من المدن هناك، ولم تقع قدمي في تلك الديار، ولا رأتها عيني، ولستُ أحاول أن أدافع عن أحد بقدر ما يهمني أن نحاول أن ندير أزماتنا بشيء من العقل والمنطق والإنصاف، وأعلم أن حديثي يصنف في خانة السباحة ضد التيار، وهي عملية لا تحقق نتائج إيجابية على الصعيد الشخصي، عندما يسود تفكير العقل الجمعي، لا العقل الواعي، كما هو حاصل في أزمة من هذا القبيل·
وأتذكر أنني كنت في الولايات المتحدة، إبان سخونة فكرة المقاطعة ضد المنتجات الأميركية، بعد مهاجمة واشنطن أفغانستان في سبيل إسقاط حكومة ”طالبان”، حينها كان أحد الشباب المتحمسين يتحدث معي محادثة إلكترونية عبر الإنترنت، ويحثني فيها على مقاطعة المنتجات الأميركية!
قلت له: يا حبيبي أنا أعيش في أميركا، كيف سأقاطع المنتجات الأميركية، وأنا أعيش على أرضها؟!
وستعجبون مثلي، من إجابته العجيبة، فقد قال لي بإصرار وحماس: عليك أن تفعل وتقاطع الأميركيين ولو كنت بينهم، وتذكر أن من يتقِ الله يجعل له مخرجاً، ويرزقه من حيث لا يحتسب، وأن من ترك شيئاً لله، عوّضه الله خيراً منه!
أقول، ونعم بالله، واؤكد أن هذه نصوص صحيحة، لكن تنزيلها على الواقع في مثل هذه الحادثة كان عجيباً، بل إنه من دواعي التعجب حد الضحك!
من سنقاطع، وإلى متى؟!
تبدو إجابة هذا السؤال غائبة عن أذهان المقاطعين، ولا ألومهم، لكني أتمنى أن يجيبنا المحرضون على فكرة المقاطعة عن هكذا تساؤل، بعد أن يجيبونا على أسئلة أخرى مهمة· إذا كان الدافع من المقاطعة هو الانتصار لسيد الخلق صلى الله عليه وسلم، فهل تعتقدون أنه عليه السلام كان سيسر من محاسبتكم بالمقاطعة أناساً لا علاقة لهم بأصل الخطأ؟!
ثم ألم يكن صلى الله عليه وسلم يتعامل بشكل مختلف مع من يسيء إليه؟!
ألم يكن جاره اليهودي يلقــــي في طريقــــه القاذورات، فلمـــا افتقـــــد إساءتــــه ســـــــأل عنه فــــإذا به مريــــض، فذهــــب ليعوده فـــي بيتـــه؟!
ألم يقل لكفار قريش، بعد أن آذوه وبالغوا في إيذائه عقدياً وشخصياً: اذهبوا فأنتم الطلقاء؟!
لستُ أطالب بأن لا ننتصر لنبينا، أو أن لا ندافع عن قضايانا، لكني أقول إن علينا أن ندير شؤوننا بشيء من التفاعل الإيجابي، وأن نترك للمسلمين الذين يعيشون في بيئات غربية ويفهمون ثقافات تلك البيئات تحديد طرق التعامل الأنسب مع الأخطاء التي ترتكب في حق ديننا ورموزنا وهويتنا·
وأضرب مثالاً عملياً إيجابياً بمنظمة (كير) الإسلامية الأميركية (مجلس العلاقات الإسلامية- الأميركية)، هذه المنظمة التي لا تألو جهداً في التعاطي مع قضايا الإسلام والمسلمين وفقاً لآليات المجتمع الأميركي· (كير) لم تتغاض عن الموضوع، بل كتبت وأرسلت وخاطبت، وكان آخر أعمالها التقاءها بالسفير النرويجي في واشنطن، وأبلغته احتجاجها على الرسومات التي رسمت في الدنمرك وأعيد نشرها في النرويج·
مجلس العلاقات الإسلامية- الأميركية (كير) هو أكبر منظمات الحقوق المدنية المسلمة الأميركية، ولكير 29 مكتباً وفرعاً إقليمياً في الولايات المتحدة وكندا، ويتعامل المجلس مع قضايا المسلمين بنفس النظام الأميركي، وأذكر أنه وزع إعلانات على المسلمين الأميركيين، بأنه سيراقب تعاطي موظفي المطارات مع المسلمين الأميركيين خلال موسم الحج، لجهة منع ممارسة العنصرية ضدهم، وتمييزهم في إجراءات السفر أو التفتيش، بالنظر إلى ديانتهم·
هذا النوع من العمل المنظم العاقل الموزون هو ما نحتاج إليه في التفاعل مع قضايانا في العالم·
جميع الحقوق محفوظة 2019