ومن اقتات على الشعر فجعله مقياسَ الأخلاق عنده – في الأعراف داخل جزيرة العرب خاصة – فلن يستريح يوماً لأن المعارك لا تنتهي، ولن تنقضي، وحسبك أن تجد دليلاً في صالحك لتستيقظ صباحاً على حجة لا تقل عن أختها، وأبيات منسوبة لشاعر آخر، ولعل في هذا من الطرب ما يجعلني أقترح على محبي الشعر – وما أكثرَهم – جعل الخصومة والاختلاف في المعايير التي يضعها الشعراء معلناً وبيناً، وقد يكون في ذلك تجديد لعهود ليست بالبعيدة، حين شاع أدب الإخوانيات والمعارضات الشعرية، وكان الشعر محفوظاً، ليس فقط في القلوب، بل واقعاً معاشاً، فلا يكاد يخلو منه مجلس أو اجتماع أهل وأحباب.
وأصعب من ذلك كله أن تجد تهمة كالتي ابتدعها المهجري إيليا أبو ماضي حين نزع الرجولة الكاملة عن رجل رأى كريماً يظلم أو يهان أمامه، فلا تغضب نفسه، ولا يقف في وجه العدوان على الحُر:
إني لأغضب للكريم ينوشُه
مَن دونه وألومُ من لم يغضبِ
وإني وإن كنت لا أحبُّ المحاكم، ولا يستهويني الجدال في غير منفعة، فإنني أجدني منذ مدة غاضباً بلا سبب، ومنحازاً كلياً للمقنع الكندي الذي ظلمه بنو عمه بغير وجه حق. ولو كان اليوم بيننا لأخذتُ أهلي وأبي وكرام أصحابي لنكونَ في وجاهة نطلب بها يدَ ابنة عمه، ولو بعد حين، ولنزلنا حضرموت، وقطعنا الصحراء العربية، كي نقتصَّ للكريم الذي أفقره الجود، وأعيته الحيل في تغيير عاداته الصعبة حتى صابه الفقر، وقلبت له الدنيا ظهرَ المجن، ولعمري، إن بَطُؤَ بنو عمه عن نصرته، فإن الكرام في كل حي لا يعدمون، ولو تيسَّر اليوم تقدير الدَّيْن الذي أعجز المقنع عن بغيته، ووضع في «هاشتاق» أو في «تويتر»، لما مرَّ نهار على سداده، فمن العرب من يعطي دون منة، ويتحيَّن الفرصة ليكون جابرَ عثرات الكرام الذي بدأ اسماً وانتهى فكرة مشاعة عند عموم العرب، والحق أن العرب تحبُّ أن تستمر الصفات الحسنة، ويبقى الكريم دائماً في كل زمان ومكان، كي لا تنتهي فضيلة من الوجود. وإن كان المقنع يسرع لقضاء حاجات بني عمه، وحمل الثقيلات عنهم، فإنهم خذلوه شرَّ خذلان، حتى اشتكى الرجل:
وإن الذي بيني وبين بني أبي
وبين بني عمي لمختلف جدَّا
أراهمْ إلى نصري بطاءً وإن همُ
دعوني إلى نصر أتيتهمُ شدَّا
وليت بني عمومة المقنع جازوه بنصف فعله الذي رأوا فيه سَفَهاً وإسرافاً وقلةَ عقل، ولست ألومُهم، فإن اللوم لا ينفع مع البخيل ولا الجبان، إذ هي صفات في النفس تظهر في الساعات الأصعب، وكل بخيل قد يكون كريماً في ساعة اليسر، كذاك كل جبان في ساعات السلم يظهر فارساً مغواراً، لكن استمرار الفعل الحسن هو الذي يودي بصاحبه في أعين اللئام، ولا أصدق من.. «الجود يفقر والإقدام قتال!».
على أن المقنع كان خيراً لبني عمه قبل الآخرين، فهم لم يسألهم عطاءً أو يطلب من رفداً، كما يقول الرواة، بل كما يقول
هو عن نفسه:
لهم جلُّ مالي إن تتابع لي غنًى
وإن قلَّ مالي لم أكلفهم رفدَا
وذاك من غاية عقله، فحسب الكريم طلاقة الوجه وطيب السيرة، حتى يكون بابه أقرب لقلوب الضيوف وإن كان في آخر الأرض، وعذر البخيل الذي لا ألومه عليه أنه لم يجد «طربة» الكريم حين يتخيل المحتاج يلتفت في خياله: من يقصد؟ ومن يسأل؟ ومن يفك الكربات؟ ثم يأتي بباله ذاك المذكور بالكرم، فإن لم يواسِه بالمال ستر عليه الحال، وقد يستعمل وجاهتَه التي تزن مال البخلاء كلِّهم فيقضي حاجته، وتلك عادة أهل المروءات، لا أخلى الرحمنُ البلادَ منهم.
وإن زجروا طيراً بنحسٍ تمرُّ بي
زجرت لهم طيراً تمر بهم سعدَا
وإن هبطوا غوراً لأمر يسوؤني
طلعت لهم مما يسرَّهمُ نجدَا
فإن قدحوا لي نار زندٍ يشينني
قدحتُ لهم في نار مكرمة زندَا
وإن بادهوني بالعداوة لم أكن
أبادهم إلا بما ينعت الرشدَا
وإن قطعوا مني الأواصر ضلة
وصلت لهم مني المحبة والودَا
ولا أحمل الحقد القديم عليهمُ
وليس كريم القومِ من يحملُ الحقدَا
وكيف لا أدافع عن رجل لا يحمل الحقد القديم ولا الجديد، فهو وإن نفى عنه الحقد القديم، فإن الأبيات الأخرى تنفي نفياً مضاعفاً بيِّناً حرصه على طهارة ثوبه وجمال قلبه بالتفاؤل وإن تشاءموا بفعله، وإن اجتمعوا ليلقوه في البئر خرج باحثاً عن مكرمة جديدة يرفع بها اسمَ قومه، وإن أظهروا العداوة اتشح بوشاح الإسلام: فقل لهم سلاماً، والمقنع وصول عادة أبيه الذي وإن ترك الملك لأخيه لم يقع أخته، وكذاك فعل المقنع بعد موت أبيه، والولد سر أبيه، ومن شابه أباه – لعمري – ما ظلم.
ولعظم نفسه فهو لا يذكر قومه بالصغار، ولا يعيب بني عمه في حضور أو غياب، فقد اختار العتاب على الهجاء، واختار الشكوى للكرام، ولو بعد حين، على الشتيمة والإقذاع، وهم على ما هم عليه عنده أكرم الناس وأجملهم، فلله در كريم لا ترى عينه – حتى في الخصومة – غير الحسن والجمال والبهاء، وإن بدأ بالعتاب الذي أراه مغصوباً عليه لاشتداد الحال واليأس من المحبوبة بنت عمه، فإنه يختم كما يفعل الكرام بالمدح والطيب وحسن الظن وعظيم الاعتذار، ربما لأنه علم أن ذلك خارج من أيديهم، وليس باختيارهم، وربما عذرهم لجهل رآه بكامل عقله، فلا يعقل أن سيبقى اسمه في دواوين الكرماء وصناديد العرب دون أن تكون له نفس تحاسبه، بل وتجبره على أن يختم القضية بالاستغفار لبني عمه.
ما أكبرَ نفسَك أيها المقنع الكندي في كل حين وجيل:
على أن قومي ما ترى عينُ ناظر
كشيبهمُ شيباً ولا مردُهم مردَا
بفضل وأحلام وجود وسؤددٍ
وقومي ربيع في الزمان إذا اشتدَا
رفعت الجلسة… رفعت الجلسة!