أخمّن دائمًا وصايا الأهل والأحباب، حين أستقل طائرة إلى جهة من جهات الأرض… أعرف جيدًا من أين أحضر الحلوى، التي ستدهش عائلتي… أين تُباع التحف، التي لن يجدها صديقك حين يصل لهذه النقطة من الأرض… أتخيل ابتسامة المتلقي وهو يفتح هديته، التي وصّى عليها بنفسه، وأحمّل نفسي فوق طاقتها عتابًا، إن لم أستطع أن أدهش نفسي، قبل غيري، بعد كل عودة جديدة!
قبل عودتي الأخيرة للخرطوم، وأنا لا أستعمل كلمة السفر هنا، لأن الخرطوم مكان للعودة أكثر من كونها جهة للوصول أو محطة بين رحلتين، خمنت وصايا الأصدقاء في العمل… الأهل والأبناء، ماذا سيطلبون بعد علمهم بسفري تجاه قلب أفريقيا العربي؟!
جلست أتذكر وجوه الطيبين من أهل السودان في فصول الدراسة، وفي بدايات عملي بالصحافة… ثم بعد انتقالي إلى دبي… وخروجي صوتًا في الإذاعة، ثم وجهًا على شاشة التلفاز… زملاء في المهنة وأساتذة في المدرسة… محاسبين مهرة، وأطباء يطيلون الصمت بين سؤالين، كي يمسكوا بتلابيب الداء في القرى البعيدة، إلى أفخم عيادات الخليج العربي، وصولاً إلى مشافي لندن البعيدة، كُتابًا ساخرين، في أعمدة الصحافة العربية، ومحللي أوضاع أفريقية إقليمية ودولية من الطراز الرفيع… أمة مفطومة على الطيبة والشعر والحنية… شعبًا يختصرهم دائمًا أهلنا في نجد بقولهم: السوداني عزيز نفس… أمين لا يقبل الإهانة، ولا يغرنك طول صبره على شدة بأسه، حين يقرر الرد على مخاصمه!
سكنت على ضفاف النيل، مرّ بي صوت العطبراوي فغنيت معه: «أنا سوداني أنا سوداني»… رأيت أم درمان على الضفة الأخرى، فتذكرت سيف الدولة الدسوقي وهو يقول:
* عد بي إلى النيل لا تسأل عن التعبِ … الشوق طيَّ ضلوعي ليس باللعبِ
* لي في الديار ديار كلما طرفت عيني … يرف ضياها في دجى هدبي
* وذكريات أحبائي إذا خطرت … أحس بالموج فوق البحر يلعب بي.
مر بي الأصدقاء القدامى… تمشيت في شوارع الخرطوم، فإذا الزمان على حقيقته النسبية كما كان منذ الأزل، نهار طويل مليء بالتفاصيل… حافلات تقل الناس… متصوفة باسمون، طواقٍ برتقالية وأخرى خضراء، وكل واحدة تدل على الطريقة ما دامت السبحة باليد… محلات للعصائر الطبيعية، التي تتغير بتغير الفصول… الفول يتداعى إليه الناس في تمام العاشرة صباحًا… ستات الشاي يدرن البخور، ويعرفن حتى سر العملة الصعبة… جرائد تطل من خلف جيوب الثياب البيضاء… عمائم ملفوفة بعناية، وحين تدقق النظر، تفهم جيدًا كيف تستطيع تمييز أهل كل مدينة خليجية، من تفصيل صغير في طريقة لبس الشماغ والعقال.
كرامٌ كرام، بسيطون كأن ترمب لم يزدهم إلا طمأنينة، وهو يمنعهم من دخول الولايات المتحدة… بلاد متسعة الأطراف، يأكل من أطرافها الطير، ومن نمير نيلها يتوضأ كبار السن على الضفتين… لا يمنعون لاجئًا، ولا يحتقرون غريبًا، وقبل شهور تطوع بعض اللاجئين السوريين، لتنظيف العاصمة المثلثة، عرفانًا ووفاء للسمر الكرام.
يستسهل السودانيون صعب الطباع الكريمة، فهي سجيّة لمن نزل بلادهم وعاش بين أظهرهم، وفيهم خلة الطرب للشعر العربي الفصيح، ومن يبحث سيجد دهشة نزار قباني، حين أقام أول أمسية له في الخرطوم، وقال:
“وبعد ثلاثين سنة من الغطس تحت سطح الماء، والغرق في بحار النساء، اكتشفت أن اللؤلؤ الأسود هو الأغلى، والأحلى والأكثر إثارة، كما اكتشفت أن الذي يملك مثقالاً واحداً من اللؤلؤ السوداني، يمتلك كنوز سليمان، والحور المقصورات في الجنات، ويصبح ملك الإنس والجان. الحب السوداني ليس جديداً علي، فهو يشتعل كالشطة الحمراء على ضفاف فمي، ويتساقط كثمار المانغو على بوابة قلبي، ويسافر كرمح أفريقي بين عنقي وخاصرتي، هذا الحب السوداني لا أناقشه، ولا أحتج عليه، لأنه صار أكبر من احتجاجي، وأكبر مني، صار وشماً على غلاف القلب، لا يغسل ولا يمسح”.
وبعد ذلك كله ما زلت أحاول التذكر… نعم؛ جميع الأهل والأحباب أوصوني: إن زرت #السودان، فسلم على أهلها، وقل لهم يا تركي: أنتم الناس أيها السودانيون!