في غمرة الحديث عن الاستبداد وقعتُ على فكرةٍ لعبد الرحمن منيف مفادها:”أن من يعيش في وضع استبدادي، يفرّغ غضبه باستبدادٍ يمارسه على من هم دونه، حتى الفلّاح ربما استبد بقسوته على الأرض”! إن الاستبداد عدوى تنتشر من الرأس إلى الأساس، والفرد العربي عاش حالات استبداد عجيبة ونادرة في التاريخ، نتذكر بعض القادة فيأتي في ذهننا ستالين وماوتسي تونج، وسواهما من الباطشين الذين أذلوا الناس ثم شعر الناس بالقهر الصامت فيذهبون إلى ماشيتهم ربما ليمارسوا الاستبداد والعنف الكلامي واللفظي، لكن الفرد الذي يعيش في مكانٍ هادئ بلا صخب، حيث تدور في الأجواء أجواء العدل، والاستقرار، وتوزيع الحقوق، وحكم الأنظمة والقوانين، فإنه يعيش ببهاء نفسي وروحي. حتى قراءة الجريدة، في الصباح، يكون لها طعمها، لأنه يتابع عمل مسؤولين يحق له محاسبتهم، وجهات عمل تعمل في صالحه، وإلا فله حق الاعتراض على التسيب والاقصاء والتبديد والتضييع، فيكون لكل شيء طعمه، هذا هو حال الدول، التي تدار بمكينة من الناس، من أصواتهم وضمائرهم، فيعيشون بأمنٍ وانطلاق وتغريد. أما الفرد الذي ولد وهو مقموع ابن مقموع فإنه لا يستطيع إلا أن يرضع الاستبداد، بل إن بعض المحللين الاجتماعيين، يرى أن هناك ما يمكن تسميته بـ”إدمان الاستبداد”، بحيث يعشق الإنسان المستبد، ليكون سجيناً يبحث عن جلاده، أو طيراً يحنّ إلى سجّانه. وهذه مسألة تطرق لها المفكر العراقي، “علي الوردي”، فأشار إلى أن الاستبداد لا يتحكم فقط في المال الذي يصلك أو الحرية المنهوبة التي أخذت منك، بل يسلبك الراحة النفسية التي تحتاجها. لهذا فإن في داخل الكثيرين منا مستبداً صغيراً، قد نستبد ضد أولادنا، أو الخادمة، أو البائع، أو الفرّان، ولكننا ننسى أن جفافنا هذا يعني الاستبداد. حين لا نبتسم أو نكفهر، أو نعادي أو نحقد، أو نلعن، فإننا نمارس استبدادنا. فعلى كلٍ واحدٍ منا القضاء على “المستبد” الذي بداخله، وإذا كان أهل الهندسة اللغوية العصبية يقولون “أيقظ المارد في داخلك”، فإنني أطالب بقتل المستبد الصغير الذي بداخلنا! إنها حالة القتل الوحيدة الجائزة، شرعاً ونظاماً. من دواعي عجبي،أن تجد ثورياً يتفنن في تعداد مفاسد المستبد الكبير الذي ثار عليه، ثم يتحدث بعنف مع المراسل الصحفي، وتجده يطالب بإلغاء الاستبداد لكن أسلوبه مستبد عنيف، ولا يمكن أن يتناقض مثل هذا إلا حين ينسى أن الاستبداد موجود ومزروع في الداخل يمكننا أن نلغيه بالجلد والصبر. نعم الاستبداد يتنقل ويتوزع ويصبح مشاعاً وحين تعود البيئات إلى هدوئها يتهذب الإنسان وينزع عن نفسه عباء الاستبداد ومساوئ الارتهان. الثورات التي تجري اليوم يجب أن تكون موجهةً ضد الاستبداد الذاتي أولاً، وضد المستبد الصغير بداخلنا قبل كل شيء، والثورة الشكلية التي لا تكون آخذةً بالاعتبار الثورة الفكرية والتغيير العميق في الرؤى والأفكار لا يمكنها أن تكون ناجحةً مكتملة، ولنا في الثورتين المصرية والتونسية أمثلةً واضحة، حيث تعود بعض الأحزاب الأيديولوجية للتصدر على حساب الأحزاب التي تتطلع للتجديد والتطوير. كما أن المستبد الداخلي لدى الإنسان برز في الأحداث المؤسفة والمأساوية التي حدثت في مصر حين أحرقت المباني والمؤسسات، حتى ولو كانت السفارة إسرائيلية، فإن إحراقها ليس حلاً مدنياً ولا يتفق وسلمية الثورة ولا مدنية المطالب! لهذا فإن المستبد الصغير بداخلنا يجب أن يثور عليه الثوار، وأن نتخلص من كل الصلف الذي يضخه هذا المستبد المختبئ، ففي داخل كل إنسان مستبد صغير لابد من الثورة عليه، إن الاستبداد مركب اجتماعي يبدأ من الرأس للأساس لهذا ينمو المستبد الصغير بسبب المستبد الكبير، فهل نثور عليه؟! تركي الدخيل www.turkid.net
جميع الحقوق محفوظة 2019