أعترف – متأسفاً – على نفسي، أني لم أكن قبل سنوات قليلة أعرف شيئاً عن الأمير الملقب (شمس المعالي)، قابوس بن وشمكير (ت 403 هـ/ 1012م)، رابع ملوك آل زيار، وأشهرهم، وهم الذين حكموا جرجان وطبرستان في الفترة (928 – 1090م).
والأسف ليس على الجهل بقيمته السياسية، بل قيمته الأدبية، وبلاغته، حيث اعتبره الزركلي في (الأعلام): «نابغة في الأدب والإنشاء، جُمعت رسائله في كتاب سُمي: (كمال البلاغة)».
ينقل المؤرخون عن قابوس غلظته في سياسته، وأن هذا ما دعا المقربين منه لطلب ابنه تولي السلطة وعزل والده. ما سبق ليس لب الموضوع، بل محاولة المرور ببعض نتاج أحد الحكماء وأرباب البلاغة، فقد «كان قابوس غزير الأدب، وافر العلم، له رسائل، وشعر حسن»، بحسب النويري في (نهاية الأرب). «ولد قابوس في أحضان الثراء والنعمة، وارتشف الرجولة من ينبوعها، من العصاميين أبيه وعمه، وعلمته التجارب التي مرت على بيتهم: أن نوال المعالي، منوط بسهر الليالي. فنشأ جامعاً لرقة الرخاء الذي وُلد فيه، وخشونة الحروب التي تقلبت عليهم مدة أبيه، وأكسبته تصاريف السياسة بصراً بالعواقب، مقروناً إليه سوء الظن بالناس؛ فكان كيساً حازماً مستبداً»، كما ذكر محب الدين الخطيب، في مقدمة (كمال البلاغة).
وأتساءل عن سوء الظن بالناس، هل وقى قابوس بن وشمكير من شرورهم؟!
يجيبنا العتبي في تاريخه: «لقد كان قابوس على ما خُص به من المناقب، والرأي البصير بالعواقب، والمجد المنيف على النجم الثاقب، مُر السياسة، لا تُستساغ كأسه، ولا تُؤمن بحال سطوته وبأسه، يقابل زلة القدم بإراقة الدم… وما زالت هذه حاله حتى استوحشت النفوس منه، وتآمر أعيان العسكر على خلعه».
الأكيد أن تقييم سياسته، لا يغفلنا عن بلاغته؛ يحدثنا د. زكي مبارك، قائلاً: «كان قابوس من الملوك الأدباء، وكان للظروف القاسية التي عاناها في حياته السياسية، أثر بليغ في طبع مواهبه الأدبية، بذلك الطابع المحزن الذي يغلب على شعره ونثره».
ويبدو هذا واضحاً في أبيات قابوس بعد أن استولى البويهيون على بلاده، وأُخرج منها مكسوراً:
لئن زال أملاكي وفات ذخائري وأصبح جمعي في ضمان التفرق
فقد بقيت لي همة ما وراءها منال لراج أو بلوغ لمرتقي
ولي نفسُ حرٍ تأنف الضيم مركباً وتكره ورد المنهل المترنق
ومن أبياته الشهيرة:
قل للذي بصروف الدهر عيرنا هل حارب الدهر إلا من له خطرُ
أما ترى البحر تعلو فوقه جيفٌ وتستقر بأقصى قاعِه الدررُ
فإن تكن نشبت أيدي الزمان بنا ونالَنا من تمادي بؤسه الضررُ
ففي السماء نجومٌ ما لها عددٌ وليس يُكشفُ إلا الشمس والقمرُ
ومن أرق شعره في الغزل:
خطراتُ ذكرِك تستثير مودتيلا فأحس منها في الفؤاد دبيبَا
عضو لي إلا وفيه صبابة فكأن أعضائي خلقنَ قلوبَا
أما الثعالبي في (يتيمة الدهر)، فأثنى على صاحبنا ثناءً عاطراً، بل إنه أهدى كتابه الشهير (التمثيل والمحاضرة) لشمس المعالي، قابوس بن وشمكير، مؤكداً أن «بلاغته هي أقل محاسنه ومآثره»، ثم نقل بعض نثره، وننتقي منه هنا، ونضيف عليه من مصادر أخرى:
> من أقعدته نكاية الأيام، أقامته إغاثة الكرام.
> من ألبسَه الليلُ ثوبَ ظلمائِه، نزعَه عنه النهارُ بضيائه.
> اقتناء المناقب باحتمال المتاعب، وإحراز الذكر الجميل بالسعي في الخطب الجليل.
> كل غم إلى انحسار، وكل عالٍ إلى انحدار.
> النجيب إذا جرى لم يُشق غباره، والشهابُ إذا سرى لم تُلحق آثاره.
> العفو عن المجرم من مُوجبات الكرم، وقبول المعذرة من محاسن الشيم.
> لكل شيء غاية، ومنتهى، وانقطاع… وإنْ بَعُدَ المدى.
> غاية كل متحرك سكون، ونهاية كل متكون ألا يكون، وآخر الأحياء فناء، والجزع على الأموات عناء، وإذا كان ذلك كذلك، فلم التهالك على هالك؟
> الدهر شر كله مفصله ومجمله، إن أضحك ساعة أبكى سنة، وإن أتى بسيئة جعلها سنة، ومن أراد منه غير هذا سيرة، أراد من الأعمى عيناً بصيرة، ومن ابتغى منه الرعاية، ابتغى من الغول الهداية.
> قَبِيح بمن تسمو همته إلى قصد من تغلو عنده قيمته، أَن تكون على غيره عرجته، أو إلى سوى بيته زيارته وحجته.
الغريبُ أن د. شوقي ضيف، يصف نثر قابوس بالتصنع، ويعتبره اتخذ التعقيدات نمطاً في حرفته، والأغرب قوله: «ولسنا ندري من أين جاءته هذه التعقيدات، إلا أن يكون للفراغ الذي أصابه، وهو معزول عن حكمة أثر في ذلك، وهو فراغ طال طولاً شديداً، نحو ثمانية عشر عاماً لم يكن له فيها أي عمل، فماذا يصنع؟ وكيف يمضي أوقات فراغه؟ هل يعمد إلى اللهو؟ كلا، فإن العتبي يقول: «إنه فطم نفسه عن رضاع الملاهي»، إذاً فماذا يصنع بهذا الفراغ الهائل؟ لقد اتجه إلى الأدب يقطع به هذا الفراغ، فهو يتخذه لهوه، أو قل: يتخذه لعبته»!
العجيبُ أن رسائل قابوس الشهيرة التي اقتطفت منها مقولاته، كان معظمها إبان حكمه، كما يبدو من نصوصها. أختم معلقاً على الأستاذ ضيف، متمنياً أن ينتج كل فارغ، شيئاً يُقارب نثر ابن وشمكير وحكمته، ولو كانت التعقيدات أصلَ هذا الإنتاج وفصله.