في معظم دول الخليج نواجه أسئلة الهوية في حلّنا وترحالنا، لأننا لم نحتك كفايةً بالآخر على النحو الذي تهيأ لمجتمعاتٍ أخرى. صحيح أن حضور الإنجليز أو الشركات النفطية كان له أثره اللغوي والسوسيولوجي الواضح في التداخل بين الكلمات أو العلاقات، أو فهم العادات، لكن تلك المرحلة لم تطل، إذ جاء سؤال الهوية مع المد القومي، وكرّسه المد الإسلامي الصحوي، وإلى اليوم تعتبر الهوية مشكلة لدى الخليجيين حتى وإن لم يعوا بها. قل مثلاً إنها مشكلة “لا واعية”. وسؤال الهوية من الأسئلة الثقافية الأولى خليجياً، والدليل أن العلاقة مع الآخر بالنسبة لهم لم تحسم سلباً أو إيجاباً. فهي ليست سلبية على طريقة القوميين أو المتعصبين الإسلاميين، ولا إيجابية على طريقة المنخرطين ضمن التأثير الأوروبي بمجالات العلم والعمل. ألا تتشكل مواقف واضحة من الآخر انطلاقاً من حراسة الهوية، أفضل من تشكلٍ سلبيّ يشل الحركة، ويجعل الهوية عائقاً كما هو الحال لدى الأيديولوجيين الذين فهموا الهوية على أنها جدار ضخم على غرار الأسوار العظيمة، التي تجعل بيننا وبين الآخرين مسافة لا يمكن مطلقاً أن تؤسس لالتقاءٍ من أي نوعٍ كان. الهوية ليست دائماً تجرنا إلى الخلف، بل إذا كان مفهومنا للهوية فيه مستوى من التطوّر والخلق كان محفزاً على التطور بكل أشكاله. والمفكر السوري “أدونيس” في كتابه:”موسيقى الحوت الأزرق-الهوية، الكتابة، العنف” يقول:”تبدأ الذات بالخروج من أوّليتها لكي تفتح أفقاً، وكي تكوّن معنى. وعلى هذا لا تكمن حقيقة الهوية الإنسانية في مجرّد النشأة والانتماء، وإنما تكمن على العكس، في العمل والصيرورة، فالإنسان لا يرث هويته بقدر ما يخلقها، أو لا يشكل الجانب الوراثي فيها إلا مستواها “الحيواني الطبيعي”، فالهوية الإنسانية إبداع مستمر، يخلق الإنسان هويته، فيما يخلق عمله وفكره. الآخر هو الباب الذي تدخل منه الذات إلى الكون”. المشكلة التي ترتبط بسؤال الهوية أن الآخر يقلقها أكثر من الذات. انشغلت الإجابات التي تتمحور حول الهوية بالآخر، لكنها لم تنشغل إلا قليلاً بالذات. الآخر كان مركز الإجابة عن الهوية، وغفلت الذات عن ذاتها. وهذا يعود إلى طبيعة التاريخ الذي عاصره العرب خلال القرن الماضي، والذي كان مسكوناً بالصراعات مع الغرب، إما بسبب إرث الاستعمار الساكن في مخيال الناس، أو بسبب القضية الفلسطينية، والتي شكلت الوجدان الشاعري للكثيرين. ولهذا كانت الهوية سلاحاً أكثر من كونها طاقة دافعة لتجديد العلاقة مع الآخر وطرح الثقة به، والبدء في التبادل المعرفي والثقافي. ولم تتحسن العلاقة مع الغرب حتى الآن، لكن في الخليج لم يحدث شيء من هذا، بل العلاقة مع الغرب مليئة بالتحالفات الرائعة، وبالابتعاث وبالشراكة الاقتصادية والسياسية. وهذا سبب طرحي لفكرة الهوية في هذا المقال. أريد أن أبادر بضرورة صياغة مفهوم للهوية يتجاوز المفهوم، الذي تكون مع الصراعات كما هو الحال لدى بقية الدول العربية. الخليج الآن يعيش مع الآخر من خلال الابتعاث وبرامجه، أو بالتشارك الاقتصادي والعسكري والسياسي، ولا يوجد ما ينغّص العلاقات إلا بضع قضايا خلافية تحدث بين أي علاقتين مع أي أمتين. لكن الهوية الخليجية عليها أن تكون منفتحةً في تعاطيها، وأن لا تستخدم الهوية كسلاحٍ سلبي بوجه الغرب، ولا أن تأخذ من الهوية مبرراً للتخلف، فالهوية حين تكون سداً منيعاً بوجه الآخر فأول ما نجني عليه أنفسنا، لأننا إن استغنينا عن الآخر فباستطاعته أن يستغني عنا. الهوية ليست ظلمة، وإنما هي النور الذي يصلنا بالآخرين، وبه نستطيع أن نكمل خطواتنا في الخليج إلى الأمام. أهلاً بهوية منفتحة متجددة متغيرة، ووداعاً للهويات المغلقة.
جميع الحقوق محفوظة 2019