حسبُ السعادة، أنها تضرب إليها أكباد الإبل، ويبحث عنها البشر على تفاوت أصنافهم، حتى صارت من الأشياء القليلة التي يتفق عليه الناس.
البحث عن السعادة، والتطلع لها، وادعاء امتلاكها زوراً أحياناً، من أعز الأشياء التي يتساوى فيها الآدميون، وإن اختلفوا، في مسالك الوصول إليها، وطرائق اقتناصها.
ولأن الموضوع يشغل الناس، من كل الطبقات والأجناس، تنافس العلماء، والفلاسفة، والشعراء، والأطباء، ولم يخرج من هذه المنافسة حتى المنجمون والعرافون، في محاولة، تأطير هذه السعادة، والقبض على زمام تعريفها، وسكب قالب يظهر ملامحها، ويبين شكلها ووجوهها، ليسلك بنو البشر، طرائق في الموضوع قدداً، مجددين عهدهم بالاختلاف، فقلَّ أن تجد من يمسك بيدك تجاه وجهة للسعادة، قريبة من وجهة الآخرين، وإن لم تطابقها!
وربما، لو اتفق البشر على وصفة موحدة للسعادة، لتقاتلوا عليها!
وبينما العبد الفقير إلى الله، يقلب التوصيفات المتباينة، والتعريفات المتضادة، حتى وقعتُ على بحث شائق عن السعادة، جرى في الولايات المتحدة، في ستينات القرن الماضي، كشف أن الأقل دخلاً، والمنتمين للأقليات، كانوا حريصين خلال الاستبيان على تأكيد أن الصعوبات في حياتهم بوصفهم مهمشين، ليست في نشرهم سبباً في تعاستهم، بل تعاملوا معها بوصفها أسباباً كافية للاستيقاظ من الغفلة، ومطاردة قطار السعادة السريع، الذي ينطلق مبكراً دون أن يعبأ بأحد، فينتظره!
لم أندهش شخصياً، وأنا أرى أثر المضايقات اليومية المتكررة المنغصة على سعادة الإنسان، من أحداث الحياة الشاقة، التي تأتي فجأة مثل موت الأحبة وفراق الأهل والأصحاب، مروراً بالعطالة، ومواجهة سلوك الناس السيئين، والتعامل مع المتمردين. بل عرفت ذلك مبكراً، حين علمت أن قلقي، من وجع السن الذي لم أعالجه في حينه، كان أكثر ألماً من تلك الساعة، التي استسلمت فيها لبنج الطبيب ونشاز صوت آلاته وهي تنخر عباب أسناني.
من هنا نتفهم نصائح أهل السعادة، في التخلص من المتشائمين، والحسّاد؛ الذين يصعب رسم الفرح على وجوههم. أولئك الذين ينظرون لكسر في سن الضاحك، فيملأهم الكسر سواداً كليلٍ حالكٍ، من دون أن يكترثوا لبياض الضحكة، التي تداعت لها الأسنان جميعاً، مستجيبة للحظة الفرح، تسندها عضلات الوجه المنشرحة.
لقد سبق أصحاب العربية الناس بوصف السوداويين بالثقلاء، وقد صدقوا والله، فهل أثقل من ممارسة غلاظ الأرواح، أولئك الذين يعجبهم سواد الغراب، أكثر من خضرة الغصن الذي يقف عليه الناعق المشؤوم!
على أنني لست مؤمناً بدوام الفرح وتتابع السرور فذاك من محال المحال، خاصة أنه كلما تقدمت بالمرء تجارب الحياة، فبياض الشيبات على المفارق أثر لخطوب الحياة. وفيه يقول أبو العلاء المعري:
وإنْ يَكُ في الدنيا سُعودٌ فإنّما
تكون قليلاً كالشُّذوذِ الشوارِدِ
وقديماً قالوا إن سوء الظن من كمال تجارب المرء – وإن كنت قد خالفتهم زمناً – إلا أن اختلافي، لم يفت من عضد المجموع الكلي، المؤمن بحقيقة قسوة الحياة، مهما جمَّلها الشعراء والفنانون.
حتى إن أطيب المتفائلين، وأحد أرق الشعراء، وقد تناولته بحديث مستفيض قبل فترة هنا، ألا وهو الشريف الرضي، يحذر من خطورة انتظار الفرح الدائم، ويهبط بغنائيته العذبة، في حالة إحباط شفيف:
ألا لا ترم أن تستمر مسرة
عليك فأيام السرور قلائلُ
ولا تطلب الدنيا فإن نعيمها
سراب تراءى في البسيطة زائلُ
وقد لا يختلف الشريف الرضي، كثيراً عن الخطاب الديني الغارق فيما بعد الحياة، الناسي شكل الوردة ورقة النسيم، شاخصاً مضيعاً اللحظة الآنية الأكيدة أمامه، مقابل فكرة ذهنية، مفادها أن استمتاعك اللحظي متبوع ببؤس وعقوبة، توازي إن لم تفق، مدة الفرح، ليصبح السرور عبئاً مخيفاً قبل قدومه، وقد يستغفر صاحبه من بعده، رغم أن الذي أكرمك بلحظة الفرح، قادر على جعل كل أيامك أفراحاً، دون أن يطلب رأي شريف أو رأي واعظ متشنج.
وشكراً لديكارت، الذي يبدو أكثر واقعية وتفاؤلاً، وهو يقر بأنه: «ليس ثمة سعادة أو شقاء مطلق، بل تفكير يشعرنا بأحدهما».
وضمن مشارب الناس في السعادة، وحبهم للحديث عنها، ظفرتُ بسِفْر جميل في مكتبتي، كنت قد قرأته في صيف قديم، ودونت عليه بعض الملاحظات، ثم عدت إليه مستمتعاً، كأني لم أفارقه. عنوانه «سيكولوجية السعادة»، لمؤلف أنيق يدعى مايكل أرجايل. الكتاب عمل نادر فريد رغم عنوانه الذي يبديه صعب الفهم بداية. أسلوبه العلمي ذو لغة بسيطة تشرح كثيراً من المفاهيم العلمية المعقدة وتجعلها في متناول القارئ غير المتخصص وأنا منهم.
مئات الدراسات العلمية والبحثية مرتبطة بأسئلة يومية، بينها: ما العوامل التي تؤثر في سعادة المرء: العائلة أو الأصدقاء؟ أم بيئة العمل؟ أو حتى جماعات الدعم؟ سواء كانت دينية أو ثقافية أو حتى من الأقرباء الأدنين؟
ليس هذا فحسب، بل بين دفتي الكتاب الممتع إحصاءات وأرقام ونتائج تحمل مفاجآت شتى، من بينها أن سعادة الرجال في العلاقات الزوجية أعلى من سعادة الأنثى، ولا أظنني العربي الوحيد المندهش من نتيجة كهذه، رغم أن عينة البحث ليست في بلداننا!
وبينما أنا أضحك في مكتبتي، من هذه النتيجة الطريفة، تذكرت صديقنا المتنبي وهو يقول:
لولا المشقة ساد الناس كلهم
ولم أكمل الشطر، ولن أكمله، حتى نتفق على معنى المشقة ها هنا، فهل المشقة هي نقيض السعادة والفرح، أم هي كل ما يصيب الإنسان من هم وحزن فيقيده عن مراده؟ وإن كان المعنى الذي في ذهنك الآن، هو الأخير، فستتفق معي بلا شك، على أن منغصات الحياة الصغيرة المتتالية – وهذا التوالي يؤكد قول العربي القديم: وإنما السيل اجتماع النقط – سبب في إضعاف الهمم وتكدر الأمزجة، فلو صفا الذهن على الدوام، ودوام الحال من المحال، لما تخلف عن ركب السعادة أحد!
لكن ما رؤى الناس عن صاحبة الجلالة: السعادة؟
يقول العرب إن قوام السعادة الفضيلة، وأن تحب ما تعمل، فمن الشقاء أن تستيقظ مبكراً لما لا تحب، وصاحبنا لاوتسو – حكيم الصين – يبدو قريباً من رجال الدين، الذين سبق ذكرهم في معادلة «أن السعادة تولد في البؤس، والبؤس يختبئ في السعادة»، أما أوغست كاونت، فمقتنع تماماً: أن السعادة لا تكمل دون المشاركة، لذا نسرع لآبائنا وأمهاتنا بكل خبر سعيد، وندعو الأحباب لكل لحظة فرح. أما العقاد، فيتفق مع الرحابنة في أن «البيت السعيد أهم من فكرة الوطن السعيد»، رغم أنه من المستحيل أن تلذ بفراش وثير وطعام لذيذ، وجارك يتضور جوعاً، أو أن تسعد وخبر حزينٌ يطل من بلادك في شاشة الأخبار.
ولكن لنرَ ما السعادة في منظور شاعرين عربيين بارزين:
يقول جبران:
وما السعادة في الدنيا سوى شبحٍ
يُرجى فإن صارَ جسماً ملَّه البشرُ
أما الشابي فيذهب إلى أبعد من هذا إذ يقول:
وما السعادة في الدنيا سوى حلمٍ
ناءٍ تضحي له أيامَها الأممُ
ومن القناعة إلى الرضا، يفترش العافون، سجادة السعادة منذ الأزل، ولعلي جالس في منتهاها الآن، كي لا أذهب بعيداً، وأتعلق بالكسر في سن الضاحك، أضحك الله سنك أيها القارئ الكريم، وظللتني وإياكم السعادة.