من المعروف في علم الاجتماع، سعي الناس لمشابهة بعضهم البعض، وهو ما يطلق عليه أحياناً المشاكلة، ولذلك يُقال: «الناس بأزمانهم أشبه منهم بآبائهم»، وهو قول رُوي مرفوعاً للنبي صلى الله عليه وسلم، ولا يصح منسوباً إليه، كما رُوي منسوباً إلى جمع من الصحابة، منهم: عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وعروة بن الزبير، رضي الله عنهم.
ربما كان شبه الناس بأزمانهم أكثر من شبههم بآبائهم، هو أحد أسباب التنافر بين الأجيال، وكثيراً ما عَدَّ أقوام من أهل الفضل والعلم، أنفسهم أخفقوا في تربية أبنائهم، لأنهم لم يروا منهم، ما يرجوه المربي في زمنه هو لا زمن ابنه!
ولكن ما المراد من هذه العبارة المثيرة، القديمة، المتجددة: «الناس بزمانهم (أو بأزمانهم) أشبه منهم بآبائهم»؟ يحاول السخاوي أن يجيب فيقول: «أي، الناس يتشبهون بندمائهم لا بآبائهم فمن أهانه الزمان أهانوه ومن أعانه أعانوه».
الخوارزمي، في (الأمثال المولدة)، علّق على عبارتنا السابقة، فقال: «فبالجملة أنّ الناس بالزّمان، والزّمان بالسلطان، والسّلطان متصرّف على حكم حاشيته وبطانته، وناظر بأعين كتّابه وكفاته، وجلّهم بل كلّهم مائل عن مرارة الجدّ إلى حلاوة الهزل».
وللثعالبي، في (التمثيل والمحاضرة)، فصلُ فيما يكثر التمثل به من جميع الأشياء، ومنه ما يتمثل به من ذكر الإنسان، وفيه أورد:
والحقيقة أن أي ممارسة إنسانية ضد فكرة شبه الناس بأزمانهم، إنما هي استثناء من القاعدة، وخروجٌ عن المثل، فمن طبيعة البشر أن يألفوا معايشيهم، وبالتالي يتهربون من فعل ما يُعتبر خروجاً عن السائد، أو ربما شذوذاً عن المعروف والمألوف في زمنهم.
وفي التعليق على عبارتنا، أكد الجاحظ في (الرسائل) على: «عمل البلدان، وتَصَرُف الأزمان، وأثارهما في الصور والأخلاق، وفي الشمائل والآداب، وفي اللغات والشهوات، وفي الهِمَمِ والهيئات، وفي المكاسب والصناعات، على ما دبر الله تعالى من ذلك بالحكمة اللطيفة، والتدابير العجيبة».
صحيحٌ أن ثمة سؤالاً تاريخياً اجتماعياً، لم يُجب عليه قطعياً، وهو: هل الزمن هو من يصنع طبائع الناس، وعاداتهم؟ أم أن الناس يُغيرون بسلوكهم الزمن، وبالتالي التاريخ؟ وأياً كانت الإجابة، فهي لا تنفي شبه الناس بأزمانهم وأوقاتهم.
وحتى فيما يتعلق بالفتوى، يبدو الأمر مماثلاً، فها هو ابن القيم، في كتابه (إعلام الموقعين عن رب العالمين)، يقول بوضوح: «الواجب شيء والواقع شيء، والفقيه من يطبِّق بين الواقع والواجب، وينفذ الواجب بحسب استطاعته، لا من يلقى العداوة بين الواجب والواقع، فلكل زمان حكم، والناس بزمانهم أشبه منهم بآبائهم…».
نقل كتاب (ملوك حمير)، لنشوان الحميري، وصية شهران الملك إلى ابنه تألب ريم، ومنها: «واعلم أنَّ لكل عصر أهلاً، وبما باينت طباعهم من كان قبلهم، فلا تستعمل في الآخر سيرة الأول، أجمع ولا تترك القلائد، فإنَّ الناس بزمانهم أشبه منهم بآبائهم، ولولا ذلك ما كان أهل دهر أكرم من أهل دهر، ولا أهل عصر أنجد من أهل عصر، ولا أهل زمان أعلم من أهل زمان، والأيام متقلبة فاركب لكل زمانٍ ركبه».
«لأن الإنسان، بل سائر الحيوان، على ما يقتضيه الكون والمكان، دائرة مع اختلاف أخلاق الزمان، فإن الزمان كالوعاء، والشخص فيه كالماء، فيعطيه من إخلافه ما يقتضيه من كدره وصفائه، ولهذا قيل: لون الماء لون إنائه، وقد قيل: الناس بزمانهم أشبه منهم بآبائهم»، طبقاً لابن عربشاه، في (فاكهة الخلفاء ومفاكهة الظرفاء).
ونقل المرزوقي في (الأزمنة والأمكنة)، عن بعضهم، قوله: «إنّ للأزمنة تأثيراً في أهلها، كما أنّ للأمكنة تأثيراً في أهلها، ولذلك أخذ قرن عن قرن: النّاس بزمانهم أشبه منهم بآبائهم، قالوا: فتصاريف الأزمان تؤثّر في الخلق والأخلاق والصّور والألوان والمتاجر، والمكاسب والهمم والمآرب والدّواعي والطّبائع واللُّسن، والبلاغات والحكم والآداب».
ولا أظن بعيداً عن حديثنا ما ينسب لعلي بن أبي طالب، كما في (نهج البلاغة)، قول: «لا تقسروا أولادكم على آدابكم فإنهم مخلوقون لزمان غير زمانكم». وينسب لسقراط، ولأفلاطون، والمعنى: أن لكل عصر وزمن أساليبه، وطرائقه، فاستخدامها مراعاة لتغير الزمان، من العقل والحكمة.
ومما ينقل من أقوال العرب قديماً: الناس سيلٌ وأسراب طيرٍ يتبع بعضهم بعضاً.
وفي ذات المعنى قال أبو الطيب المتنبي:
وشِبْهُ الشيءِ مُنجَذِبٌ إلَيْهِ وأشْبَهُنَا بدُنْيانا الطَّغامُ
والطغام: أراذل الناس. قال العكبري: «وبيت أبي الطيب منقول من كلام الحكيم (ينسب لأرسطو): الأشكال لاحقة بأشكالها، كما أن الأضداد مباينة لأضدادها. المعنى: يقول: الدنيا لا عقل لها، وكذلك أهلها، فِشبه الشيء يقاربه، أي أنّ الشيء يميل إلى شكله، والدنيا خسيسة، فلذلك ألفت الخساس، لأنهم أشكالها في اللؤم، والشكل إلى الشكل أميل. ومن أمثال العامَّة: (الجوز الفارغ يتدحرج بعضه إلى بعض)».
وإن كان الخسيس يجتمع إلى مثيله، فإن النبيل يجمعه النبل إلى النبيل، والشهم يجتمع إلى الشهم، والطيب إلى الطيب، وكلما كثر هؤلاء أو أولئك، غلب طبعهم على الزمان، فكانت الغلبة وسيلة لنشر هذا الخلق بين الناس، الذين هم أشبه بأزمانهم منهم بآبائهم، وأجمل بقول المعري:
فما أَذنبَ الدَّهرُ الذي أَنتَ لائمٌ ولكن بنو حواءَ جاروا وأذنبوا
السفير السعودي لدى الإمارات.