ينقل الماوردي حادثة طريفة، حصلت له ذات يوم، وهو عالم شهير، وفقيه نحرير، فيقول: «ومما أُنذِرُكَ به مِن حالي؛ أَنني صَنَّفتُ في البُيوع كِتَاباً، جَمعتُ فيه ما استطعتُ مِن كُتب الناس، وأَجهَدتُ فيه نفسي، وكَدَدْتُ فِيهِ خَاطِري، حتى إذا تَهَذَّبَ واسْتَكمَل، وكِدتُ أُعجَبُ به، وتَصَورتُ أَنِّي أَشَد الناسِ اضطِلاعاً بِعِلمِهِ… حَضَرَنِي وأنا في مجلسي أعرابيان، فسَأَلانِي عن بيعٍ عَقَدَاهُ في البادية، على شروط تضمنت أربع مسائل، لَمْ أَعرِف لشيءٍ منها جَواباً، فَأَطرَقتُ مُفَكراً، وَبِحَالِي وَحَالِهِمَا مُعتَبِراً. فقالا ما عِندَكَ فيما سَأَلنَاهُ جَوَابٌ، وأَنتَ زَعِيمُ هذه الجماعة؟! فقلت لا. فقَالا إِيهاً لَكَ، وانصرفا. ثُم أَتَيا مَن قَد يَتَقَدمُه في العِلمِ كثير مِن أَصحَابِي، فسَأَلاهُ، فأَجَابهُما مُسرِعَاً بِمَا أَقنَعَهُما، وانصرفا عَنهُ رَاضِيَينِ بِجوَابِه، مَادِحَينِ لِعِلمِه».
ثُم يُعَقِّبُ الماوردي على هذه الحكاية، فيقول: «كان ذلك زَاجِرَ نَصيحةٍ، ونَذِيْرَ عِظَةٍ، تَذَللَ بها قِيَادُ النَفسِ، وانخَفَضَ لَها جِنَاحُ العُجْبِ».
تلك، يا سادتي، حكايةٌ، فيها مُعتَبَرٌ لمن شاء، من أهل الثقافة، والعلم، والمعرفة، والتعليم، وهي مدخل لطيف، لما أودُ أن أُسِرَّ به إلى كل مُؤَثِّرٍ، أباً، أو معلماً، أو كاتباً، أو محاضراً، وإن صَحَّ أن يتحدث الكاتب بقلمه، فقد يصح أن يُصغي القارئ ببصره!
العِلمُ، أيها الكرام، محيطٌ ضَخمٌ، لا سَاحل لبَحرِهِ، لَكِنَّكَ إن وقفتَ على الشاطئ ظَنَنتَ لِجَهلِكَ أنكَ ترى نِهايَتَهُ، أَمّا إِن أَبحَرتَ فيهِ، فستَعلم كلما تعمقت في الغوص، واكتشفت ما لم يخطر لك قبلاً بِبِالٍ، أَنَّ كُلَّ ما تَدَّعِيه من معرفة، وتتفاخر به من عِلم، ليسَ بشيءٍ أمام ما تَجهَله من علوم ومعارف. وكُلَما ازدَدتَ يقيناً بِسِعَةِ العِلمِ، عَلِمتَ أَكِيدَاً أَن مَعرِفَتكَ تَتَضَاءَلُ أمام هذه البحار الزاخرة. فإذا تَسَربَلتَ بحقيقة التواضع، فَتَحتَ لكَ باباً من أبواب المعرفة، فلا يمكن أن يَتعَلمَ ذُو كِبرٍ. وكلما اتَسَعَت المَسَاحُةُ بينَكَ وبين التفاخُر، اقتَرَبَت المسافَةُ بينكَ وبين التعَلم، فالعاقل من يُجبِر نفسه لتَتَطَامن، مُعتَرِفَةً بحقيقة أكيدة؛ هي أنك لا تعلم شيئاً، إذا قِستَ ما تعرفه مع ما لا تعرفه، ونتيجة هذه المعرفة والسلوك يجب أن تسري على لسانك كلمة؛ لا أدري! مبتعداً عن الخجل منها، مقتنعاً بوجوب استخدامها، للتعبير عن واقع الحال، فمن يعترف بأنه لا يدري، يمكن أن يبدأ السير في طريق التعلم الطويلة، مسافةً، وزمناً، وشوقاً، ورغبةً، وشغفاً.
وما أَجمَلَ ما افتَتَحَ بِه الجاحظ كتابه «البيان والتبيين»، حين قال: «اللهمُ إِنَّا نَعُوذُ بكَ من فتنَةِ القَولِ، كما نَعُوذُ بك من فتنَةِ العَمَل، ونَعُوذُ بك من التكَلفِ لما لا نُحسِن، كما نَعُوذُ بك من العُجبِ بما نُحسن، ونَعُوذُ بك من شَرِّ السَّلَاطَة والهَذرِ، كما نَعُوذُ بك من شَرِّ العيِّ والحَصر».
كان علي بن أبي طالب يقول: «ما أبردها على القلب! إذا سُئِل أحدكم عما لا يعلم، أن يقول: الله أعلم». ومن شأن هذا اللون من التواضع العلمي أن يجعل المرء مُقبِلاً على التعَلم إِقبالا بِلا فُتور، حريصاً على التزود من المعرفة، في كل زمان ومكان، باحثاً دونَ مَلَلٍ عن الفائدة، مهما كان مَصدَرُها، طالباً المعلومة، أَيّاً كان مَورِدُهَا، فذلك، على الحقيقة، هو ما يَجعَلُ المَرءَ أَكثَر عِلمَاً، وأَغزَر معرفة، لأنَّه يَتَعَلَمُ على الدوام، ويَجذِبُ إليه من يَجُود بالفائدة، وينطق بالمعرفة.
يقول أبو القاسم الآمدي…
إذا كنت لا تدري ولم تَكُ بِالذي
تسَائلَ مَن يدري فكيفَ إِذَن تَدرِي؟!
جَهَلتَ وَلَم تَعلَم بِأَنَّكَ جَاهِلٌ
فمن لي بأن تَدرِي بِأَنَّكَ لا تدري!
وبهذا التواضع العلمي، تخرج بركات متفاوتات، وتسود روح الحوار، في دور التعليم والسكن والعمل، حتى تصل إلى الأماكن العامة، بدل روح التلقين الجوفاء، والانفراد بالرأي، ولو بلا أَثَرَةٍ من عِلم، ولا خِصلَة من أَدَبٍ.
وما أذكى وأزكى ما قاله عبد الله بن عباس: «لو كان أحد مكتفياً من العلم، لاكتفى منه موسى عليه السلام، حين قال: (هل أتبعك على أن تعلمن مما علمت رشدا)».
تعلم فليس المرء يولد عالماً
وليس أخو علم كمن هو جاهل
وإن كبير القوم لا علم عنده
صغير إذا ضمّت عليه المحافل!
قال الإمام مالك: «جنة العالم لا أدري، فإذا أغفلها أصيبت مقاتله». فكلمة «لا أدري» تحمي العَالِم، فلا يتجرأ على ما ليس له به علم. قال الهيثم بن جميل: «سَمِعتُ مَالِكَاً سُئِلَ عن ثمانٍ وأربعين مسألة، فأجاب في اثنين وثلاثين منها بـ(لا أدري)». وقال خالد بن خداش: «قدمت على مالك بأربعين مسألة، فما أجابني منها إلا في خمس مسائل». وسُمِعَ عبد الله بن يزيد بن هرمز يقول: «ينبغي للعالم أن يُورِثَ جلساءه قول (لا أدري)، حتى يكون ذلك أَصلاً يرجعون إليه».
قال حصين الأسدي: «إنَّ أَحدَكم ليُفْتِي في المسألةِ، ولو سُئِلَ عنها عمرُ بن الخطاب لجمعَ عليها أهلَ بدرٍ!».
واعتبر بِشر الحافي أن «مَن أَحَبَّ أن يُسْأَلَ، فَليسَ بِأَهْلٍ لِأَنْ يُسْألَ».
قال الشعبي: «لا أدري نِصفُ العِلم»، وسُئل مَرّةً عن مسألة، فقال: «لا عِلْمَ لي بها»، فقيل له: ألا تستحي؟ فقال: «ولِمَ أستحي مما لم تَستَحِ الملائكة منه، حين قالت: (لَا عِلْمَ لَنَا إلَّا مَا عَلَّمْتَنَا)». قيل إن «الصحابة كانوا يتدافعون أربعةَ أشياء؛ الإمامةَ، والوصيةَ، والوديعةَ، والفُتْيَا». وقال بعضهم: «كان أَسرَعهُم إلى الفُتْيَا أَقَلَّهُم عِلماً، وأَشَدُّهم دَفعاً لها أورعهم».
وصاغ ابن دُريد الفكرة في بيت شعر، فقال:
ومن كان يَهوى أن يُرى مُتَصَدِّراً
ويكره «لا أدري» أُصيبَت مَقاتِلُه
إن السلوك الجمعي في مناطقنا يُشَجِّع على ادعاء العلم، عند من لا يعلم، ويُخذِّل من إظهار جهلك فيما لا تعرفه، فيصبح التدليس والتعالم ظاهرة معدية، وسلوكاً مستنسخاً، ينقله كل جيل لمن بعده، فاتساع مساحات الادعاء، والتظاهر بامتلاك ما لا تملكه، يُعَطِّل عملية التعلم الحقيقية، ويدفع للسطح ظواهر مُشَوهَة كاذبة، تمقت الصدق، وتحارب العلم، وتزعم المعرفة زوراً، وإذا ساد هؤلاء مجتمعاً فأَعلِن الحِدَادَ عليه، فإنه مجتمع ميتٌ، وإن ظن أنه حي، وهذا هو الجهل المركب، أن تكون جاهلاً، وتزعم العلم، أن تصبحَ فارغاً تَظُن الامتلاء!