في أوائل القرن السادس عشر، بزغ نجم رجل دين استثنائي بأوروبا، مارتن لوثر (1546-1438)، الأستاذ المتخصص بأصول الدين، استخدم معجماً لم يألفه المسيحيون، نزع الواسطة بين الإنسان والرب، فالعلاقة بينهما مباشرة بلا وسائط، فكرة ألهبت نار الغضب الكنسي. قالها «لوثر»: «الإنسان بإيمانه الفردي»، بقيت الفكرة مثل كرة النار تحرق ما مرت عليه من أصوليات تقليدية وأقبيةٍ كنسية، على إثر هذا النقد البروتستانتي دخلت أوروبا بتوازناتٍ مختلفة، بين استثمار من قبل الإقطاعيين لنقد لوثر، ومعارضة كنيسية حادة، بلغت ذروة الصراع بنشوب حرب الثلاثين عاماً في الفترة من (1618-1648) حرب متعددة الأهداف والأطراف، بيد أن شعار «الحرب على الهرطقة» كان شعارها الأبرز، حرب دموية فرمت ما بين سبعة إلى تسعة ملايين إنسان!
حربٌ مزجت الديني بالسياسي، حرب الكاثوليك والبروتستانت، عززتها الأطماع الفرنسية ضد نفوذ الامبراطورية الرومانية، وبعد عقودٍ من الدماء أثمرت المفاوضات عن اتفاقية لام س«وستفاليا» عام 1684، بالإضافة لمعاهدتين هما «مونستر» و«أوسنابروك» وفي بنود الصلح: «إعلان خدمة مجد الرب وأمن العالم المسيحي، لسلامٍ وصداقةٍ شاملين بين المسيحيين أبديين وحقيقيين وصادقين».
في هذه الفترة كان الفيلسوف الانجليزي توماس هوبز (1588-1679) عائداً من باريس، وقد شهد من قبل الدماء ترشق من نافذته، لم ير في المعاهدة ما يكفي، إذ لابد من نظريةٍ تخترق هذا الاصطفاف الديني. كتب مؤلفاته في القانون والسياسة ووضع نواة علم سيتطور لاحقاً باسم «العقد الاجتماعي»، أدرك هوبز من خلال الحرب وأهوالها، أن غياب مفهومٍ شامل لضبط العلاقات الاجتماعية، وعلاقة الفرد بالآخر، وطبيعة الدولة ومؤسساتها، سبب لما يصفه «حرب الجميع ضد الجميع»، وكتب مؤلفه المرجعي في فلسفة العلوم السياسية بعنوان «اللفياثان»، من هنا دخل العالم بمجال تعاملٍ آخر، وخففت نظريته من احتقان الحروب الأهلية الدينية.
طحنت الحروب الأهلية فرنسا، وألمانيا، وأسبانيا، وسويسرا، وأميركا، ولكن ما الذي أوقفها؟!
في القرنين السابع عشر والثامن عشر، تبلورت فكرة «التسامح» بين جون لوك وفولتير، نواة عصر الأنوار، وذلك من خلال رسالتيهما الشهيرتين، ومؤلفاتهما الأخرى، وبابهما الأساسي أن الاختلاف بين الناس في أديانهم لا يبرر مهاجمتهم أو انتقاصهم أو الشك بمدنيتهم أو نجاتهم بالآخرة.
غيّر هذا المفهوم وجه البشرية إلى الأبد، لم يكن سحرياً، ولكنه الأكثر عقلانيةً لتحرير المخيال الفردي ضد المخالف، ومنع تحقيره أو مهاجمته فضلاً عن قتله. واليوم نحن أحوج ما نكون لهذا المفهوم، لا لتدريسه وجعله منهاجاً تربوياً، ومساراً للتعاملات بين المسلمين بطوائفهم المختلفة فحسب، بل وتطويره وتعميقه، خاصةً وأنّ جذوره في ثقافتنا الدينية والمدنية متينة. ولكنّ تجار التعصّب حاولوا قتله، كراهيةً في «فكرة الدولة»، فكان ربحهم في مذابح الإقصاء باسم الدين.
إن الحروب التي شهدها العالم الإسلامي والقتل والإرهاب باسم الدين، تحتم على المجتمعات استلهام تجارب الأمم التي ذاقت الويلات من قبلنا.
كيف يمكن أن نتجاوز الحروب الدينية والقتل باسم الدين والمذهب والتكاره على هذا الأساس؟!… سؤال صعب، ولكن زرع قيم التسامح، يثمر عن توجه في الطريق الصحيح، والمضي في خط سير آمنٍ للوصول إلى السلام..
لقد آمنت الإمارات بثمرة التسامح معلنةً عن تسمية العام 2019 ب«سنة التسامح»، وخاضت أشواطاً متقدمة ومتحضرة من خلال القوانين والتشريعات، وأقامت وزارة مستقلة لرعاية هذا المفهوم وترسيخه في المجتمع على مستويي التربية والتعليم. وبكثيرٍ من المبادرات، التي لا تكتفي بتقرير المفهوم بل تسعى لتطويره، بسياسة الذاكرة والوعي.
التسامح، ليس ترفًا، بل ضرورة، إنه يؤسس لفكرة «الدولة المستقرة»، وهو طريق المدنية والتحضر.
التسامح، أيها الكرام، مصلٌ ناجع ضد العنف والحرب، واسألوا التاريخ!
جميع الحقوق محفوظة 2019