بينما أنا منصتٌ إلى الأخبار، رنت في أذني كلمتي: “المحاسبة”، و”الرقابة”، وأنهما ضروريتان لحماية البلاد ومؤسساتها من الفساد، حتى تستمر المسيرة التنموية بسهولة ومن دون عثرات. مطلب المحاسبة ضروري جداً، كتبتُ عنه مقالات كثيرة. لكن الذي جاء في ذهني: لماذا لا يكون الفرد نفسه هو الرقيب؟ ولماذا لم تمنع ثقافة كل إنسان ودينه من أن يعتدي على المال العام؟ هذه هي الأسئلة التي دارت في ذهني. لأنني رحت أتذكر قصصاً أسطورية عن الشرف ونزاهة اليد وهي ليست قصصاً من الغرب أو الشرق، بل من قلب ثقافتنا العربية. وهو سلوك للأسف اندثر وانتهى مع غلبة منطق المطمع على الأخلاق!
“نوبوأكي نوتوهارا” الباحث الياباني في الثقافة العربية، له كتاب رائع بعنوان: “العرب وجهة نظر يابانية”، يقرأ العرب من خلال زياراته لهم، بل وعيشه بيننا سنوات، لكن من عينٍ يابانية، ويتفهم أسئلتنا في التقدم والتخلف، ويعطينا دروساً من ثقافتنا ومن الثقافة اليابانية، وهدفه من الكتاب كما يقول: “أريد أن أقول للقارئ العربي رأياً في بعض مسائله كما أراها من الخارج كأي أجنبي عاش في البلدان العربية وقرأ الأدب العربي واهتم بالحياة اليومية في المدينة والريف والبادية”.
المؤلف في حديثه عن الكاتب يوسف إدريس يقول: “الكاتب المعروف يوسف إدريس زار اليابان عدة مرات، ولقد قال لي: إنه كان يبحث عن سر نهضة اليابان التي أدهشت العالم، هو نفسه كان مستغرباً ويريد أن يعرف الأسباب العميقة التي جعلت بلداً صغيراً معزولاً كاليابان يصبح قوة صناعية واقتصادية كبرى، وبعد الزيارة الثالثة سألتُه هل وجدت الإجابة في اليابان؟ قال لي: نعم. عرفت السبب، مرة كنتُ عائداً إلى الفندق في وسط طوكيو حوالي منتصف الليل ورأيت عاملاً وحيداً فوقفتُ أراقبه لم يكن معه أحد ولم يكن يراقبه أحد ومع ذلك كان يعمل بجد ومثابرة، كما لو أن العمل ملكه نفسه. عندئذٍ عرفت سبب نهوض اليابان وهو شعور ذلك العامل بالمسؤولية النابعة من داخله بلا رقابة أو قسر”.
هذا هو سبب نهوض اليابان، أن الرقابة داخل الإنسان، والأمانة والمسؤولية آتية من أخلاقه وثقافته، أما الدول العربية في كثيرٍ منها، فعلى كثرة المؤسسات الرقابية، تشكو الوزارات من الفساد والمحسوبيات والصفقات الغرائبية، العجيب أن بعض المؤسسات التي تبنى ويصرف عليها من أموال فاسدة تنظم هي مؤتمرات وندوات عن الفساد وخطره، وعن أسباب تخلف العالم العربي!
لن أزيد فقط يكفيني أن أقول: تأملوا اليابان، لتعلموا أن شرّ البلية ما يضحك!