ارتبطت كرة القدم بالتأثير الاجتماعي الكاسح؛ فهي اليوم اللعبة الأكثر جماهيرية في العالم. وإذا كانت كرة المضرب “التنس” نشأت في بيئة أرستقراطية فإن كرة القدم على العكس منها؛ يترعرع نجومها في الشوارع، فهي لعبة لا تحتاج إلى معدات كثيرة من أجل الدخول في عمق حماستها وفوران سحرها. أعادني إلى الحديث عن هذه اللعبة، ما كتبه حازم صاغية عنها في ثلاثين صفحة خصها للتحليل العلمي الاجتماعي لتأثير كرة القدم على النسيج الاجتماعي ضمن كتابه الأخير “نانسي عجرم ليست كارل ماركس”، في الثلاثين صفحة تحدث عن تاريخ كرة القدم، وأظن أنها الصفحات الأمتع في الكتاب. في الفصل الخاص بلعبة كرة القدم يتحدث صاغية أنها لعبة أخذت شكل الحرب الكلاسيكية، وهي في لحظات التداخل تأخذ شكل الحرب الأهلية، وكل تظاهراتها مرشحة لامتداد العراك إلى درجة ربما تصل إلى استخدام السلاح الأبيض، واختلاط أنواع الحروب فيها، وإذا كانت المباريات على مستوى المنتخبات فهذا أشنع وأفظع، إذ تطفح حينها على السطح أعمق المشكلات التاريخية والسياسية بين الشعوب. يقول صاغية: “هذا المونديال الذي تنشد إليه أنظار البشرية، لكنه أيضا تحويل لهذا العنفي الأصلي، وتحوير أمم اتفقت جميعاً على أن ترصد لحظة اختلافها، وجاء التلفزيون يريها كلها في قاراتها الخمس، وفي لحظة واحدة، مشهداً واحداً لشخص واحد في وضعية واحدة. فأيهما الأقوى: التعارض أم التلاقي؟ واقع الحال أن مجرد الاتفاق على متابعة هذه (الحرب) بالتلفزيون يعني أن كرة القدم أقرب إلى تنفيس العنف منها إلى العنف، وأشبه كثيراً بمسرحة غريزة القتل”. نلمس العنف في الجدل الذي دار مؤخراً بين المصريين والجزائريين لدرجة الضرب والشتم، الذي وصل إلى حد إراقة الدماء. لم تزل كرة القدم -منذ بداية صعود مجدها في القرن العشرين- توظف لأغراض متعددة، إما لضرب بعض الأعراق، أو لإشاعة بعض المعاني السياسية، أو لتنشيط الثارات التاريخية بين الشعوب. ذلك أنها لعبة الطبقة الوسطى والطبقة الفقيرة على امتداد العالم. لهذا حرصت الشركات الكبرى على استغلال قمصان اللاعبين كوسيلة لكتابة الإعلان التجاري، وذلك مقابل ملايين الدولارات. كما يستغلها الساسة لتمديد شعبيتهم وترسيخها. من جهة أخرى ارتبط تاريخ “اللعبة” بالكثير من الأحداث “الجادة”؛ يتطرق صاغية إلى أحداث متعددة ارتبطت بهذه اللعبة؛ منها ما حدث في مونديال 1934 في روما الذي جعله موسوليني مناسبة “البعث الفاشي لإيطاليا” أو حرب 1969 بين السلفادور وهندوراس انطلاقاً من مباراة فريقيهما. لم تعد كرة القدم بمنأى عن التوظيف السياسي، ولا عن التوظيف المادي، ولا عن التوظيف الشعبي الأيديولوجي. قام الساسة بتكرير ذواتهم ونشر صورهم وأمجادهم عبر تواجدهم في المنصّات، أما صاحب رأس المال فقد دخل على خط الإعلان في قمصان اللاعبين الذين ارتفعت أسعارهم إلى مبالغ خرافية، آخر الصفقات بيع اللاعب البرازيلي “كاكا” الذي اشتراه ريال مدريد بمبلغ ناهز المائة مليون دولار، وشراءه أيضاً للاعب البرتغالي كريستيانو رونالدو بمائة وثلاثين مليون دولار. وإذا كان اللاعب في السابق مجرد موظف داخل فريق، فإن نظام الاحتراف منحه فرصة أن يتحول إلى سلعة ضخمة متنقلة تباع وتُشترى حسب ما يبدعه وينتجه. أخذت شعبية اللاعبين توازي شعبية السياسيين، فقد اكتسحت شخصية زين الدين زيدان في تصنيف جديد في فرنسا رموز السياسة في فرنسا، إذ تقدم في التصنيف على ساركوزي وجاك شيراك. حتى الأمم المتحدة أخذت تستثمر اللاعبين في الأعمال التوعوية والخيرية، وذلك لما لهم من نفوذ معنوي على المجتمعات. خلاصة القول: إن كرة القدم ليست مجرد لعبة، بل هي حركة بشرية واجتماعية انعجنت بنزعات الشعوب، واختلطت بالثارات، وعبرت بأمانة عن المكنونات الغامضة داخل كل مجتمع، وما الغليان الحاصل الآن كروياً إلا أحد الأدلة على أن هذه اللعبة باتت تحكم قبضتها على العالم، بل وتحكم قبضتها على جزء أساسي من أسواق العالم.
جميع الحقوق محفوظة 2019