تحدثتُ من قبل عن الشبكات التي تحيط بفن الرواية. منها الحكايا الشعبية الساحرة، أو القصص الخيالية، وربما سمع الروائي العظيم قصةً من جدته فنحتها قطعة فنية باذخة الجمال.
في السادس من مايو الجاري، أجرى الصحافي عبدالله الزماي، حواراً مع الروائي البرتغالي أفونسو كروش، نُشر بجريدة «الرياض»، وهو الحوار الأول له باللغة العربية، وذلك بعد صدور روايته (هيا نشتر شاعراً)، وهي رواية انتشرت بين متذوقي الأدب ومدمني الرواية، وتتناول أهمية الجمال والفنون بالعالم المادي. الحوار سلّط الضوء على النظرية الروائية لديه، وكيف يمكن للإنسان الحفاظ على مساحةٍ من الجمال والشعر والفن بعالمٍ مثل الورشة، أحداثه تطحن الإنسان باليوميات، ولا يبقى لنفسه أي مساحةٍ من تذوق أو استمتاعٍ بمجال فني عميق.
في إجابةٍ مهمة له قال: «إننا بحاجةٍ ليس فقط إلى الشعر وإنما إلى الثقافة. نحن بحاجة إلى أهداف، لأننا لم نولد بمخالب وفراء، ونحتاج إلى الملابس والأدوات. نحتاج إلى الإبداع والثقافة لنحافظ عليهما، وبالطبع لأننا بحاجة أيضاً إلى الجمال في حياتنا. فكما يقول سعدي الشيرازي لو كنت أملك رغيفي خبز ابتعت بأحدهما وردة. إنني متفائل، بغض النظر عما أكتب. لدي إيمان عميق في الشعر وما يمكننا القيام به في حياتنا. ولكن – كما قلت من قبل- على الرغم من أنني متفائل، فإنني لست ساذجاً، وأعرف أن لدينا الكثير للقيام به، والكثير لتطوير أنفسنا وما حولنا في المجتمع».
يمتنّ الروائي كروش للثقافة العربية التي استوحى منها العديد من الشخصيات، ويصرّح بأن الكثير من شخصيات رواياته عربية، وقد استوحى بعضاً من الحبكات التي استخدمها من الحكايات الشرقية العربية والفارسية. الأهمية بالنسبة للحكايا والقصص والخيالات، بل حتى الشطحات التي لا تصدق أو الشخصيات الرمزية لها جمالها، تغدو الرواية مثل فيلمٍ سينمائي، لنتذكر شخصيات مثل فتاة جميلة بذيل سمكة، وغيرها من الصور التي تضيف للرواية جمالاً، وتضع القارئ أمام صور غير معهودة، لأن أخطر ما يدمر الرواية هو التكرار، أو الإغراق في الهيكلة الكلاسيكية أثناء بناء النص.
وحين سُئل الروائي عن خاتمة روايته وصفها بـ: «إنها أشبه بمناشدة للقارئ بعدم التخلي عن الشعر، والمحافظة عليه في حياته، فبغض النظر عما هي مهنتك فإنك بحاجة دائمة في حياتك إلى العاطفة والجمال والإبداع. ستكون ميكانيكي سيارات ماهراً أو طبيباً أو مهندساً إذا كنت مبدعاً في عملك. لكنك ستكون ابناً أو زوجاً أو أباً أفضل إذا ما حافظت على الجمال في حياتك».
يعوّل الروائي البرتغالي كروش، على الجمال في تحسين القيم ورفع مستوى الذوق الاجتماعي، إذ لا يمكن تصوّر مجتمع منتج أو طبيعي ويتمتع بقيمٍ عالية من دون ارتفاع مستوى الحسّ الجمالي لدى الإنسان، أن يرى الجمال في الشجرة والنهر والبحر، في الطير، في المسرح والموسيقى والنص الخارق، أن يكون الواقع بالنسبة للمجتمع مجال استمتاع بالجميل حين يتجلى.
ويضرب المثل على تطور المستوى الجمالي ببلده البرتغال، الذي كما قال: «يمر بفترة جيدة جداً، ليس فيما يتعلق بالفنون فحسب، وإنما في الرياضة أيضاً، وفي البحث العلمي، وما إلى ذلك. ما يزال أمامنا الكثير من المسافات التي يجب أن نقطعها، ولكننا أفضل بكثير مما كنا عليه قبل بضعة عقود».
المجتمعات تنهض بالجماليات، والرواية والشعر والحكايا والقصص الواقعية والخيالية، والأساطير، والفنون بأصنافها رافعة للإنسان، ليكون ذوقه الجمالي أبعد من الاستهلاك اليومي، ليذهب نحو الاستمتاع الفني الحقيقي المرتبط بالوعي وتطور الذوق، والقدرة الذاتية لإدراك تجليات الجمال، والمجتمعات من دون فرص جمالية ليست مجتمعاتٍ طبيعية.