لا أذكر المبلغ الذي كان داخل الظرف الأبيض، اليوم، بعد ربع قرن على تلك الحادثة، التي لا أنساها، ولكني ما زلت أحتفظ – ورقياً – وأحفظ عن ظهر قلب، تلك الجملة التي كتبت بخط الثلث، فقد ترك لي عمِّي الذي زارني أيام دراستي الجامعية، ظرفاً مغلقاً وجدته بعد سفره، كتب عليه بخط كأن حبره لم يجف حتى الساعة في قلبي: «إليك يا عزيزي، رغم أني أعرف أنها منك لغيرك»!
يقول صاحبي الراوي: «الحقيقة أن ذلك المبلغ، كان قد جاء في وقته، لكني سهرت الليل كله، أفكر في معنى العبارة، التي شغلتني عن عد المبلغ حتى، وما زلت إلى اليوم، أعتبر تلك الجملة درساً حياتياً بالغ الفصاحة».
كل ما يملك الإنسان في هذه الدنيا، تصح عليه تلك النصيحة، التوقيع، التي لامستني وما زالت، كلما تقدمت بي الأيام، وما زلت أفتح الظروف، وأبتسم رغم خلوه من أي شيء، لكن الذاكرة تحملني إلى تلك اللحظة، كلما فكرت في جنون البخيل، الذي يكنز المال، فلم يقم بالدور الأهم، في حياة كل إنسان؛ تمرير الخير بأنواعه من إنسان لآخر.
العلم يزيد بكثرة إنفاقه، ومال الغني لا يفنيه العطاء، والكريم معان، وليت شعري لو يدري البخيل، ما ضيع من الذكر الحسن في عقبه، وما فرط في بركة ماله. يضيف محدثي: كم سألني الأقربون عن اسم صاحب أقدم ظرف خالٍ إلا من السطر الجميل، فابتسمت وقلت لهم:
حر إذا جئتَه يوماً لتسأله
أعطاك ما ملكت كفاه واعتذرا
يخفي صنائعَه والله يظهرها
إن الجميل إذا أخفيته ظهرا
لم أجد صاحبي، متدفقاً في حديثه، كما اللحظة، إذ يقول: الذكر الحسن والدعاء والترحم على الكريم، بعد رحيله أو وفاته أبقى من ماله كله، ففي الحديث عن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم أنه أمر بإخلاء حال سفانة ابنة حاتم الطائي: «خلوا عنها فإن أباها – يعني سفانة – يحب مكارم الأخلاق، ولو حضر الإسلام لترحمنا عليه»، وليس رسولنا العربي الوحيد، الذي خلد ذكرى حاتم والكرم، بل إن أحد قياصرة الروم بلغه جود حاتم، فأكبر ذلك ولم يصدق ما تناقلته الرواة، فسأل عن أعز ما يملك ذلك العربي الذي وصل صيته إلى مجلسه، فذكروا فرساً عزيزة على حاتم، فأرسل القيصر حاجبه لخيمة العربي، الذي فرح بالضيف وأسرع إلى حلاله ليكرم القادم، فلم يجد إلا الفرس المذكور، فأسرع إليها فنحرها، وحين انتهى رسول القيصر من عشائه، استمنح حاتماً الفرس المذكورة بالاسم والصورة، فغم على حاتم وقال: هلا أعلمتني قبل الساعة؟ فإني نحرتها لك إذ لم أجد غيرها، فأصاب الحاجب ما لم يغب عن القيصر من الدهشة والإعجاب حتى قال في مكانه: والله قد رأينا منك أكثر مما سمعنا!
وفي متجر الأشراف، الذي اسمه العطاء والسخاء، لا يخسر مبادر، ولا ينكسر كريم، مهما أعطى، فأول قوانين تلك التجارة، ما خطه الكريم على ظرفه الجميل: «منك لغيرك»، وكأنها مصداق بيت الشعر العربي القديم:
يجود علينا الخيرون بمالهم
ونحن بمال الخيرين نجودُ
أجدني مرتاحاً جداً، وأنا أستعير بيت الشريف الرضي، لوصف سباق أهل الكرم بنيهم، بتجارة الأشراف:
لا تعذلوا كرمي على الإسراف
ربح المحامد متجر الأشراف
إني من القوم الذين أكفهم
معتادة الإتلاف والإخلاف
ولو بقيت عند غيرك، ما وصلت إليك، كما يقول الناس عن الدنيا، والعجيب أن حاتماً، يستعمل لغة الشريف نفسها في وصفه المال؛ إذ يعتبره «غاديا ورائحا»:
أَمَاوِي إنَّ المالَ غَـادٍ ورائِـحٌ
وَيَبْقَى مِنَ المالِ الأَحَادِيثُ وَالذِّكْرُ
أَمَاوِي إنِّي لا أَقُـولُ لِسَائِـلٍ
إذِا جَاءَ يوماً حَلَّ في مالِنَـا نَـزْرُ
ومن أهل تلك التجارة، أحمد بن محمد اليماني، المتعهد بالإنفاق لكل طالب:
سأبذل مالي كلما جاء طالب
وأجعله وقفاً على القرض والفرض
فإما كريماً صنت بالجود عرضه
وإما لئيماً صنت عن لؤمه عرضي
والحقيقة أنني ما رأيت في أكثر من ستة وأربعين عاماً، أكثر من تواصي أهل البذل على البذل، كأنه عمل صالح، بدأ عند العرب قبل الناس، وجاء الإسلام ليعززه، ويطلق الكرم في حق الخالق الذي يأمر عباده بالبذل في كل حين، بل ويحذرهم من الإمساك والبخل، وينسبه للشيطان كذنب محض.
ولم تقتصر صفات حاتم على الكرم، فالكرم رأس جميل الصفات، ولا يزاحم رجل الأحرار في سوقهم القديمة، حتى تغلبه هذه الصفة على غيرها، ولا أعجب من الأعرابي الذي انتبه لباقي أوصاف صاحبنا، فقال: «كان حاتم من شعراء العرب، وكان جواداً يشبه شعره جوده، ويصدق قوله فعله، وكان مظفراً إذا قاتل غلب، وإذا غنم أنهب، وإذا سُئل وهب، وإذا ضرب بالقداح فاز، وإذا سابق سبق، وإذا أسر أطلق».
كان قابوس بن وشمكير، أمير جرجان (ت 403هـ)، الديلمي الأصل، المستعرب، البارع في الأدب، النابغة في الإنشاء والبلاغة، يقول: «من أقعدته نكاية الأيام، أقامته إغاثة الكرام». أما الحسن بن سهل (ت 236هـ)، ذو الرياستين، وزير المأمون، الذكي الفصيح الأديب، فكان يقول: «عجبت لمن يرجو فوقه، كيف يحرم من دونه؟». وقيل له: لا خير في السرف، فرد بأجمل ما يكون الرد: لا سرف في الخير. قال أبو منصور الثعالبي، تعليقاً، في (خاص الخاص): فرد اللفظ، واستوفى المعنى. ومن أقوال الحسن بن سهل: «الأطراف منازل الأشراف، يتناولون ما يريدون بالقدرة، ويقصدهم من يريدهم للحاجة».
ألم يقل الفرزدق:
يمضي أخوك ولا تلقى له خلفاً
والمالُ بعد ذهاب المال يُكتسبُ
وأما أجمل ما مدح به الكريم، قول أبو يعقوب الخريمي (ت212هـ):
يُلام أبو الفضل في جودِه
وهل يملك البحر ألا يفيضا
وقوله:
وأعددتُه ذُخراً لكلِ مُلمَّة
وسهم الرزايا بالذخائرِ مولعُ
واختلاف أهل تلك التجارة، فيما بينهم قديم، حتى إنهم لا يحبون أن يتجاوروا لعظمة بضاعتهم، فانتشارهم في الأرض رحمة من الله بخلقه، ورزق لأهل البسيطة، فهم كالغيث في كل أرض، كما قيل فيهم:
تحيا بكم كل أرض تنزلون بها
كأنكم في بقاع الأرض أمطار
ومن مزايا هؤلاء الأشراف، ما قيل فيهم:
أولئك قوم شيد الله فخرهم
فما فوقه فخر وإن عظم الفقر
أضاءت لهم أحسابهم فتضاءلت
لنورهمُ الشمس المنيرة والبدر
فلو لامس الصخرَ الأصمَ أكفُّهم
أفاض ينابيع الندى ذلك الصخر
وما أجمل ما قيل لأبي عقيل البليغ العراقيّ: كيف رأيت مروان بن الحكم عند طلب الحاجة إليه؟ قال: رأيت رغبته في الإنعام، فوق رغبته في الشكر، وحاجته إلى قضاء الحاجة، أشدّ من حاجة صاحبها.
وهل يحسن أن يختم كاتب في بابه، بأجمل من بيت زهير بن أبي سلمى:
تَرَاهُ إِذَا مَا جِئتَهُ مُتَهَلِّلا
كَأَنَّكَ تُعْطِيهِ الَّذِي أَنْتَ سَائِلُهُ