في واحدة من سنوات القرن العاشر الهجري، حلّت أسرة أبا الخيل بمدينة بريدة، عاصمة القصيم وسط السعودية، وكان أحد أبناء هذه الأسرة وأعظم رجالاتها، مُهَنَّا بن صالح أبا الخيل، قد حكم القصيم وبخاصة بريدة، مؤسساً أسرة آل مهنا، الذين حكموا بريدة بعده.
وكان لمهنا، إخوة، منهم، محمد، الذي كان، وجيهاً من وجهاء الأسرة، مهتماً بعلوم الدين، صاحب تجارة ونخيل، وله نفوذ وتأثير بين قومه.
ومن نسل محمد هذا، جاء محمد جديد، مصداقاً، لقول الشاعر القديم: «إذا غاب منا سيد قام سيد»، فأما الثاني، فهو وزير المالية السعودي السابق، الشيخ محمد بن علي أبا الخيل، الذي ولد ببريدة، في (1351هـ- 1932م)، قبل شهور قليلة، من توحيد السعودية، ودرس الثانوية، بالعراق، إذ كان لعائلته فيها أملاك وتجارة، ثم ابتعث لمصر، التي كانت، أيامها، مقصد الطلاب السعوديين، يدرسون، في جامعتها الشهيرة، جامعة فؤاد (القاهرة لاحقاً)، وحصل في كليتها للتجارة على بكالوريوس إدارة الأعمال (1956)، وعاد إلى البلاد، التي كانت، تنتظر بفارغ الصبر، أن تسهم القلة القليلة، من بنيها المتعلمين، في تشييد بنيانها، وتأسيس كيانها.
كانت الرياض، محطة الوصول، بعد الفراغ من الدراسة الجامعية، وفي ذلك الزمن، كان الملك سعود عاهلاً للبلاد، والأمير سلطان بن عبدالعزيز، وزيراً للمواصلات، فأصبح الشاب خِرِّيج القاهرة، مديراً لمكتب الوزير.
ولم تمض، أربع سنوات، حتى رأت الدولة، أن تؤسس «معهد الإدارة العامة»، ليكون صرحاً، يتلقى فيه موظفو الدولة، ما يلزمهم، من معارف الإدارة الحديثة، كي يسهموا بما يتلقونه من معرفة، في بناء مؤسسات الدولة المختلفة، ويديروا ما تحتاجه الهيئات الحكومية، بما يليق بها من مهارة.
نثرت الدولة كنانتها، وعجمت عيدانها عوداً عوداً، فلم تجد أكفأ لهذه المهمة، من محمد أبا الخيل، الذي أسس المعهد، ونظَّم برامجه، وبناه من الصفر، وسيَّر إدارته. وكان أبا الخيل إدارياً بالفطرة، مولعاً بالتفاصيل، شديد الدقة، بارعاً في المتابعة، لا تفوته شاردة ولا واردة من شؤون إدارته. تلك الميزة، لمسها من عمل معه من مرؤوسيه، ومن استعان به من رؤسائه.
بعد عامين وحسب، هبَّت رياح التغيير، على المسار الوظيفي، لمحمد أبا الخيل، حين صدر قرار سامٍ بنقله إلى وزارة المالية، وكيلاً للوزارة، ثم نائباً للوزير، ثم وزيراً للدولة للشؤون المالية والاقتصادية، وعضواً بمجلس الوزراء، عام 1971.
وفي عام 1975 عُيِّنَ أبا الخيل، وزيراً للمالية، وبقي في منصبه ذلك لأكثر من عقدين، كان خلالها واحداً من أكفأ وزراء المالية، في طول العالم وعرضه، وفق تقرير نشرته مجلة «انستيتوشنال انفستور»، المختصة بالمال والاقتصاد في سبتمبر1978، بناء على استفتاء المختصين عالمياً.
كان صاحبنا أنموذجاً عجيباً، للدقة، والمثابرة، والاجتهاد في العمل، مع قدرة ذهنية استثنائية، جعلته يحيط علماً، بأرقام النفقات، لوزارات الدولة كافة، على نحو يلفت نظر من عاصره.
يتحدث عن أول ميزانية عندما تولى وزارة المالية بأنها لم تتجاوز ملياري ريال فقط.
وكان الوزير أبا الخيل، حازماً للغاية، وحريصاً على تقليل مصروفات الجهاز الحكومي، ويحكي الوزير الراحل د. غازي القصيبي، أن الملك فهد بن عبدالعزيز، كان يناصر وزارة المالية حين لا يريد لمشروع ما أن يتم، ويتجاهل اعتراضاتها، حين يريد للمشروع أن يُنجَز. ويضيف القصيبي، أن آراء وزير المالية، لم تكن تروق لأحد، لأن الجميع كان يطلب اعتمادات مالية، وكان وزير المالية يرفض طلبات الجميع.
وفي «حياة في الإدارة»، يحكي القصيبي، قائلاً: «كان لكل مشروع جانبه المالي، وكانت وزارة المالية تعتبر نفسها، بحق وأحياناً بلا حق، طرفاً في كل شيء له جانب مالي، (أي في كل شيء!). كان وزير المالية يجد نفسه في كل يوم، طرفاً في صراع بعد صراع. لا يعلم إلا الله وحده كيف استطاع محمد أبا الخيل تحمل هذه الضغوط الرهيبة طيلة هذه السنين. لولا مواهبه الإدارية المتنوعة- قوة الذاكرة، الجَلَد، المهارة في الكرّ والفرّ، القدرة على العمل ليل نهار- لما استطاع الصمود أكثر من سنة أو سنتين».
في فبراير 2021 تخلى محمد أبا الخيل عن صمته، وصدوده عن الإعلام، وخرج في لقاء تلفزيوني لأول مرة على قناة (السعودية)، متحدثاً عن مسيرته المهنية في برنامج (ألف ميل)، وفيه ذكر أن طريق الطائف- مكة المكرمة، هو أهم مشروع في فترة عمله في المواصلات، وكانت تلك المرة الوحيدة التي انقسم فيها رأي مجلس الوزراء إلى مجموعتين بالتساوي، أحدهما تؤيد تمهيد الطريق من جهة السيل الكبير، والأخرى تؤيد شق الجبل من جهة الهدا، مما دعا الملك فيصل، رحمه الله، إلى ترجيح كفة شق الجبل. وتذكر أبالخيل أن كلفة المشروع قُدِّرَت حينها بـ50 مليون ريال، وهو مبلغ لم يكن توفيره سهلاً آنذاك.
يتحدث عن الوزير السابق، الراحل د. عبدالرحمن الشبيلي، في كتابه (أعلام بلا إعلام)، فيقول: «إن الرجل هو أنموذج لا يحب أن يتحدث عن نفسه، ولا يرغب من معارفه أن يتحدثوا عنه، فضلًا عن أن يسمع من أحد إطراءً أو تبجيلًا، وهو ما يفسر خلو الصحافة – عبر عمره الإداري – من أي مادة تصب في هذا السياق». وهذا ما حدث في برنامج (ألف ميل)، حيث لم ينسب الوزير الشهير نجاحاً لنفسه، بل بتواضع الكبار، أكد أن العمل كان جماعياً، بدءاً من القيادة التي كانت تتابع كل صغيرة وكبيرة، مروراً بفرق ولجان العمل في الوزارة التي أدت عملاً جماعياً لأكثر من 15 ساعة في اليوم.
في عام 1995 تقاعد أبا الخيل، من عمله في وزارة المالية، ورغم هذه التجربة الطويلة العريضة، لم ينشر محمد أبا الخيل مذكراته، ولم يدون لنا رؤيته الخاصة، للفترة الخصبة، التي عمل فيها، وزيراً للمالية والاقتصاد الوطني، في فترة الطَفْرَة، التي كانت من أحفل فترات البلاد، نشاطاً، وعملاً، وإنجازاً تنموياً.. ولستُ أول من يرفع الرجاء، إلى أبي علي، حفظه الله ومَتَّع به، أن يُفرج عن مذكراته؛ ففيها، عبرٌ وتجارب، ستكون رافداً للأجيال، وجزءاً من حق وطنٍ بتدوين سيرته.
* السفير السعودي لدى الإماراتفي واحدة من سنوات القرن العاشر الهجري، حلّت أسرة أبا الخيل بمدينة بريدة، عاصمة القصيم وسط السعودية، وكان أحد أبناء هذه الأسرة وأعظم رجالاتها، مُهَنَّا بن صالح أبا الخيل، قد حكم القصيم وبخاصة بريدة، مؤسساً أسرة آل مهنا، الذين حكموا بريدة بعده.
وكان لمهنا، إخوة، منهم، محمد، الذي كان، وجيهاً من وجهاء الأسرة، مهتماً بعلوم الدين، صاحب تجارة ونخيل، وله نفوذ وتأثير بين قومه.
ومن نسل محمد هذا، جاء محمد جديد، مصداقاً، لقول الشاعر القديم: «إذا غاب منا سيد قام سيد»، فأما الثاني، فهو وزير المالية السعودي السابق، الشيخ محمد بن علي أبا الخيل، الذي ولد ببريدة، في (1351هـ- 1932م)، قبل شهور قليلة، من توحيد السعودية، ودرس الثانوية، بالعراق، إذ كان لعائلته فيها أملاك وتجارة، ثم ابتعث لمصر، التي كانت، أيامها، مقصد الطلاب السعوديين، يدرسون، في جامعتها الشهيرة، جامعة فؤاد (القاهرة لاحقاً)، وحصل في كليتها للتجارة على بكالوريوس إدارة الأعمال (1956)، وعاد إلى البلاد، التي كانت، تنتظر بفارغ الصبر، أن تسهم القلة القليلة، من بنيها المتعلمين، في تشييد بنيانها، وتأسيس كيانها.
كانت الرياض، محطة الوصول، بعد الفراغ من الدراسة الجامعية، وفي ذلك الزمن، كان الملك سعود عاهلاً للبلاد، والأمير سلطان بن عبدالعزيز، وزيراً للمواصلات، فأصبح الشاب خِرِّيج القاهرة، مديراً لمكتب الوزير.
ولم تمض، أربع سنوات، حتى رأت الدولة، أن تؤسس «معهد الإدارة العامة»، ليكون صرحاً، يتلقى فيه موظفو الدولة، ما يلزمهم، من معارف الإدارة الحديثة، كي يسهموا بما يتلقونه من معرفة، في بناء مؤسسات الدولة المختلفة، ويديروا ما تحتاجه الهيئات الحكومية، بما يليق بها من مهارة.
نثرت الدولة كنانتها، وعجمت عيدانها عوداً عوداً، فلم تجد أكفأ لهذه المهمة، من محمد أبا الخيل، الذي أسس المعهد، ونظَّم برامجه، وبناه من الصفر، وسيَّر إدارته. وكان أبا الخيل إدارياً بالفطرة، مولعاً بالتفاصيل، شديد الدقة، بارعاً في المتابعة، لا تفوته شاردة ولا واردة من شؤون إدارته. تلك الميزة، لمسها من عمل معه من مرؤوسيه، ومن استعان به من رؤسائه.
بعد عامين وحسب، هبَّت رياح التغيير، على المسار الوظيفي، لمحمد أبا الخيل، حين صدر قرار سامٍ بنقله إلى وزارة المالية، وكيلاً للوزارة، ثم نائباً للوزير، ثم وزيراً للدولة للشؤون المالية والاقتصادية، وعضواً بمجلس الوزراء، عام 1971.
وفي عام 1975 عُيِّنَ أبا الخيل، وزيراً للمالية، وبقي في منصبه ذلك لأكثر من عقدين، كان خلالها واحداً من أكفأ وزراء المالية، في طول العالم وعرضه، وفق تقرير نشرته مجلة «انستيتوشنال انفستور»، المختصة بالمال والاقتصاد في سبتمبر1978، بناء على استفتاء المختصين عالمياً.
كان صاحبنا أنموذجاً عجيباً، للدقة، والمثابرة، والاجتهاد في العمل، مع قدرة ذهنية استثنائية، جعلته يحيط علماً، بأرقام النفقات، لوزارات الدولة كافة، على نحو يلفت نظر من عاصره.
يتحدث عن أول ميزانية عندما تولى وزارة المالية بأنها لم تتجاوز ملياري ريال فقط.
وكان الوزير أبا الخيل، حازماً للغاية، وحريصاً على تقليل مصروفات الجهاز الحكومي، ويحكي الوزير الراحل د. غازي القصيبي، أن الملك فهد بن عبدالعزيز، كان يناصر وزارة المالية حين لا يريد لمشروع ما أن يتم، ويتجاهل اعتراضاتها، حين يريد للمشروع أن يُنجَز. ويضيف القصيبي، أن آراء وزير المالية، لم تكن تروق لأحد، لأن الجميع كان يطلب اعتمادات مالية، وكان وزير المالية يرفض طلبات الجميع.
وفي «حياة في الإدارة»، يحكي القصيبي، قائلاً: «كان لكل مشروع جانبه المالي، وكانت وزارة المالية تعتبر نفسها، بحق وأحياناً بلا حق، طرفاً في كل شيء له جانب مالي، (أي في كل شيء!). كان وزير المالية يجد نفسه في كل يوم، طرفاً في صراع بعد صراع. لا يعلم إلا الله وحده كيف استطاع محمد أبا الخيل تحمل هذه الضغوط الرهيبة طيلة هذه السنين. لولا مواهبه الإدارية المتنوعة- قوة الذاكرة، الجَلَد، المهارة في الكرّ والفرّ، القدرة على العمل ليل نهار- لما استطاع الصمود أكثر من سنة أو سنتين».
في فبراير 2021 تخلى محمد أبا الخيل عن صمته، وصدوده عن الإعلام، وخرج في لقاء تلفزيوني لأول مرة على قناة (السعودية)، متحدثاً عن مسيرته المهنية في برنامج (ألف ميل)، وفيه ذكر أن طريق الطائف- مكة المكرمة، هو أهم مشروع في فترة عمله في المواصلات، وكانت تلك المرة الوحيدة التي انقسم فيها رأي مجلس الوزراء إلى مجموعتين بالتساوي، أحدهما تؤيد تمهيد الطريق من جهة السيل الكبير، والأخرى تؤيد شق الجبل من جهة الهدا، مما دعا الملك فيصل، رحمه الله، إلى ترجيح كفة شق الجبل. وتذكر أبالخيل أن كلفة المشروع قُدِّرَت حينها بـ50 مليون ريال، وهو مبلغ لم يكن توفيره سهلاً آنذاك.
يتحدث عن الوزير السابق، الراحل د. عبدالرحمن الشبيلي، في كتابه (أعلام بلا إعلام)، فيقول: «إن الرجل هو أنموذج لا يحب أن يتحدث عن نفسه، ولا يرغب من معارفه أن يتحدثوا عنه، فضلًا عن أن يسمع من أحد إطراءً أو تبجيلًا، وهو ما يفسر خلو الصحافة – عبر عمره الإداري – من أي مادة تصب في هذا السياق». وهذا ما حدث في برنامج (ألف ميل)، حيث لم ينسب الوزير الشهير نجاحاً لنفسه، بل بتواضع الكبار، أكد أن العمل كان جماعياً، بدءاً من القيادة التي كانت تتابع كل صغيرة وكبيرة، مروراً بفرق ولجان العمل في الوزارة التي أدت عملاً جماعياً لأكثر من 15 ساعة في اليوم.
في عام 1995 تقاعد أبا الخيل، من عمله في وزارة المالية، ورغم هذه التجربة الطويلة العريضة، لم ينشر محمد أبا الخيل مذكراته، ولم يدون لنا رؤيته الخاصة، للفترة الخصبة، التي عمل فيها، وزيراً للمالية والاقتصاد الوطني، في فترة الطَفْرَة، التي كانت من أحفل فترات البلاد، نشاطاً، وعملاً، وإنجازاً تنموياً.. ولستُ أول من يرفع الرجاء، إلى أبي علي، حفظه الله ومَتَّع به، أن يُفرج عن مذكراته؛ ففيها، عبرٌ وتجارب، ستكون رافداً للأجيال، وجزءاً من حق وطنٍ بتدوين سيرته.
* السفير السعودي لدى الإمارات
جميع الحقوق محفوظة 2019