يقضي العقلاء حياتهم، يميناً وشمالاً، شرقاً وغرباً، وهم يبحثون عن كلمة واحدة تقال عنهم: هذا رجل طيب، إنه شخص محترم!
في مطلع التسعينات، كنت في جدة أنوي البدء في حياتي الجامعية، غير أن صاحبة الجلالة؛ الصحافة، كانت قد حازت من ولائي، ما لا يمكنني من منح ولاء لغيرها.
كنا نعمل في صحيفة تصدر عن الشركة السعودية للأبحاث والنشر، يُقال لها الصباحية. جاءت الإدارة لنا برجل ليكون مديرا للتحرير.
كان الرجل الحجازي حتى النخاع، يقطر لُطفاً، وينضح صحافة، ويبدو أن الأدب صنعته، كما بدا أن الآداب هي عنوان ممارساته وتعاملاته مع الجميع.
كان جموح شاب لم يبلغ العشرين، يظهر في اختيار موضوعاته الصحافية، وأسلوب كتابته لها وما كان أحدٌ يحسن التخفيف من فوران حماسة الشباب الجياشة عند العبد الفقير إلى الله مثل محمد صادق دياب، الذي أفتخر بأنه كان ولا يزال أستاذي وملاذي.
من أعجب ما وجدته في هذا الرجل، أن اكتشاف كونه عاشقاً، لا يحتاج إلى خبراء في الحب، ولا مختصين في الوله، فمعشوقته لا تنفك تغشى حديثه، ثم تغيب لا لتختفي بل لتعود بحلة اجمل على لسانه!
كيف لا وهي لا تبرح مخيلته الخصبة!
يغنج محبوبته، بما يدعوك لتحسده حيناً على حالة الهيام تلك، وتحسدها أحيانا أخرى أن ظفرت بمحب بات من علامات الزمن الجميل الماضي.
لم يكتف أبو غنوة، من الجمال بالغناء لمحبوبته، بل تجاوزه للتصنيف، فكتب فيها كتباً ستبقى ليعرف أجيالٌ جمال حبيبة دياب. فمن “جدة: التاريخ والحياة الاجتماعية”، الذي هو أهم ما كتب في موضوعه، ففيه استجلاب التاريخ وتدوين للمشاهدات التي لم يعشها في جدة أحد مثل محمد صادق دياب، حتى بات يعرف أزقتها وزواريبها أكثر مما يعرف بعضنا أبناءه، إلى “المفردات العامية في مدينة جدة”، حتى كتب وهو على فراش المرض، رفع الله عنه الضر، روايته التي عجنها بتاريخ جدة منذ مائتي عام، وأسماها:(مقام حجاز)، وفيها تحدث باسم محبوبته قائلاً:”أنا المدينة الأنثى، على أرضي هبطت حواء من السماء، فكنت مسرحاً لحياتها، وحضناً لرفاتها. أنا جدّة بكل حركات الجيم: إذا فتحته كنت جَدة المدن والناس، وإذا كسرته كنت حداثة الحياة، وإذا ضممته كنت جارة البحر”. أيها الرجل النبيل، اشتاقتك جدة، واشتاقك محبوك، وكما بالنبل كنت تواجه نوائب الدهر، فقد رأيتك تواجه المرض بالنبل، وستنصر به، يا أبا غنوة على المرض، ستنتصر بالغناء الجميل الذي لا يؤذي أحداً، ولا يعرف إلا حباً، كما أنت مذ عرفناك.
شفاك الله لمحبيك، شفاك الله لنا، شفاك الله لجدة، بكل حركات الجيم!