4- وإِذَا كَانَتِ النُّفُوسُ كِبَارًا * تَعِبَتْ فِي مُرَادِهَا الأَجْسَامُ
قال ابن المُقَفَّع: «فِي بُعْدِ الْهِمَّةِ يَكُونُ النَّصَبُ». أي إنَّ عُلُوَّ الهِمَّةِ يُسَبِّبُ الإعيَاءَ والتَّعَب.
والهِمَّةُ موضعها في النُفُوس والأرواح، والتَّعَب والنَّصَب يكونان في الأجسام. وما يُصِيبُ الأجسام من التَّعَب، سَهْلٌ أمام عِظَم مُرَاد النُفُوس، وعُلُوِ الهِمَمِ وسُمُوِّهَا، ومُراد البيتِ، التحفيزُ، لا التحذيرُ.
وقَدَرُ النُفُوس الكبيرة خَوضُ المخاطر، «وما أودع الله العِزَّ والمُلكَ في الدِّين والدُنيا، إلّا في حَيِّز الخَطَر»، كما قال الغزالي، في كتابه (إحياء علوم الدّين).
قال الماوردي: «عُلُوُّ الْهِمَّةِ بَاعِثٌ عَلَى التَّقَدُّمِ، وَدَاعٍ إلَى التَّخْصِيصِ، أَنَفَةً مِنْ خُمُولِ الضَّعَةِ، وَاسْتِنْكَارًا لِمَهَانَةِ النَّقْصِ».
ويعني بقوله: (أنفة من خمول الضعة): أنفة: أي كراهية، من خمول: أي من كسل، الضعة: خلاف الرفعة في القدر، أصلها: وِضعة، ورجلٌ وضيعٌ، ضِد الشريف.
فعُلُوُّ الهِمَّة، دافعها النفور من عكسها، وهو القدر الوضيع. والنقصُ سبب في المَهانة: وهي الحقارة، والصُّغْر، والقِلَّة، والذُلُّ، والضَعْفُ. والهمة العالية تستنكر المهانة.
وفي حديث النَّبِيُّ ﷺ: «إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ مَعَالِيَ الْأُمُورِ وَأَشْرَافَهَا، وَيَكْرَهُ دَنِيَّهَا وَسَفْسَافَهَا».
فالله سبحانه يحب العلياء من كل شأن، ويكره الدنيء من الأمور.
السَفْسَاف: الأَمرُ الحَقِير والرَّديء مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَهُوَ ضِدُّ الْمَعَالِي والمَكارِم، وأَصله مَا يَطِيرُ مِنْ غُبَارِ الدَّقيق إِذَا نُخِلَ والترابِ إِذَا أُثير. (لسان العرب).
قال عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: «لَا تُصَغِّرَنَّ هِمَّتَكُمْ، فَإِنِّي لَمْ أَرَ أَقْعَدَ عَنْ الْمَكْرُمَاتِ مِنْ صِغَرِ الْهِمَمِ».
و«أجمعَ عُقلاءُ كُلِّ أُمَّةٍ، على أَنَّ النَّعِيمَ لَا يُدْرَكُ بِالنَّعِيمِ، وَأَنَّ من آَثَرَ الرَّاحَةَ فَاتَتْهُ الرَّاحَة، وَأنَّ بِحَسب ركُوب الْأَهْوَال، واحتمال المَشَّاقِّ، تكونُ الفرحةُ واللَذَّةُ، فَلَا فرحةَ لمن لَا هَمَّ لَهُ، وَلَا لَذَّةَ لِمَن لَا صَبَر لَهُ، وَلَا نَعِيمَ لِمَن لَا شَقَاءَ لَهُ، وَلَا رَاحَةَ لِمَن لَا تَعَبَ لَهُ… وَكُلَّمَا كَانَتِ النُّفُوسُ أَشرَفَ، والهِمَّةُ أَعلَى، كَانَ تَعبُ الْبَدَنِ أَوفَر، وحَظُّهُ من الرَّاحَةِ أَقَلَّ». (مفتاح دار السعادة)، ابن القيم.
5- عَلَى قَدْرِ أَهْلِ العَزْمِ تَأْتِي العَزَائِمُ * وتَأْتِي عَلَى قَدْرِ الكِرَامِ المَكَارِمُ
هذا البيت من مَطَالِع قصائد المتنبي، التي سارت أمثالًا.
والمَطَالِعُ: جمع مَطلَع، وهو بيت القصيدة الأَوَّل.
قال ابن رُشَيقٍ القيرواني: «إنَّ حُسن الافتتاح داعية الانشراح، ومطية النجاح،… والشعر قُفلٌ، أَوَّلُهُ مفتاحه، وينبغي للشاعر أن يُجَوِّد ابتداء شِعرِه، فإنه أول ما يقرع السمع، وبِهِ يُستَدَلُ على ما عِندَه من أَوَّل وَهْلَة». (العمدة في محاسن الشعر).
العَزْمُ: الجِدُّ. عَزَمَ عَلَى الأَمر يَعْزِمُ عَزْمًا… وعَزِيمةً، كما في (لسان العرب).
والعزائم: جمع عزيمة، وهي إمضاء ما يُعزَمُ عليه.
والمكارم: جمع مكرمة، وهي الفعل الكريم الفاضل.
فالعزائم تكون على قدر أصحابها، فالكبار تكبر عزائمهم، وتتحاقر عزائم الصغار. وتتعاظم المكارم التي ينالها الكرام، جزاء كرمهم.
والعزم عزمان: أولهما: العزم على سلوك طريق الكبار، ونهج المعالي. وثانيهما: العزم على مواصلة السير على طريق المكرمات، والترقي في درجات العلياء.
6- وتَعْظُمُ فِي عَينِ الصَّغِيرِ صِغَارُهَا * وتَصْغُرُ فِي عَينِ العَظِيمِ العَظَائِمُ
صغار الأمور تكون عظيمة في عين صغير القدر، وتُصبح عظائم الأمور صغيرة في عين العظيم، فهمته العالية، ونفسه الكبيرة، تصغر قبالتها الأشياء، لأنه عظيمُ قَدْرٍ، كبيرُ شأنٍ.
كما أن العظيم تصغر في عينه الأفعالُ الجليلة، والأعمالُ العظيمة، فعلوُّ هِمته وعِظمُ نفسه، يجعلان كل شيءٍ ضئيلًا، وتعظم في عين الصغير أفعالُه الصغيرة، وأعمالُه القليلةُ.
جميع الحقوق محفوظة 2019