يحكى أن امرأة يممت وجهها نحو مكة، مع ثلةٍ من أبنائها، وكالعادة تزدحم العمرة بأرقام وهواتف المشايخ، ويستفتي الناس في كل شيء. وكلما سقطت إبرة في قدر اتصلوا على شيخ، وكان الله في عون مشايخنا الفضلاء في تقبل هذا السيل من الأسئلة التي ليست باستفتاءات بقدر ما هي وسوسات. تلك المرأة وفقها الله تسأل عن كل شيء، حتى إنها تسأل: إن كان حذاء “الشبشب” من المخيط المحرم، ولا تضع شيئاً بشيء إلا بعد فتيا من شيخ.
ويقال إنها أخطأت في بعض النسك، فبادرت الشيخ المفضل متصلةً عليه، وقال لها: اكتفي بالاستغفار ولا تعودين لهذا الخطأ في النسك مرةً أخرى. أغلقت السماعة وفي قلبها غصة، تتمتم بينها وبين نفسها أن الاستغفار لا يكفي، جهّز لها أحد أبنائها رقماً لأحد أصدقائه وقال لها هذا رقم شيخ يريحك فيما يجول في ذهنك من كفارة جراء خطأ النسك، وكان قد اتفق مع صديقه على أن يكون الاتصال “مقلب”! بادرته بالسؤال: ثم قال لها بصوت مرتفع: أووووه ألا تتقين الله؟ هذه كفارتها صعبة! يجب أن تذبحي 6 كفارات وتوزعينها بنفسك أنتي وأولادك على الجياع في أحياء الحرم! حينها اضطرت لأن تعود إلى فتوى “الاستغفار”!
مثال هذه المرأة كثير في المجتمع، وهو وسواس يشترك فيه الرجال والنساء، إذ يعتبر البعض التشدد هو الذي يبرئ الذمة، وأن التيسير في الفتيا فيه خفّة. الكثيرون يرتاحون لفتاوى التشدد والتحجير، لأنهم يشعرون تلقائياً بأنها هي الأبرأ، وهي التي تنقّي الذمة، ويعتبرون كل فتوى تيسير ليست سوى حيلة من المفتي لأن يضرب الذمة الإسلامية. وهذا لعمري خطأ كبير.
الشيخ عبدالله فدعق كتب بالأمس مقالة غنية وثرية بعنوان: “الفقه الإسلامي في عالم متغير” جاء فيها: “لقد كان الفقه في عهد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مقتصراً على ما يحتاجه الناس في زمنهم ذاك ـ عن أبي هريرة قال خطبنا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: “أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا، فقال رجل أكل عام يا رسول الله؟ فسكت، حتى قالها ثلاثا، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم. ثم قال: ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه” رواه مسلم وغيره.
قال أبوعبدالله غفر الله له: وما أكثر الراغبين في تشديد كل يسير، وجذب الناس إلى كل عسير، والتشقيقات الدينية في الفتاوى التشريحية التي تمس كل حركة وهمسة وكل مدة رجل وبسطة يد. وإذا كان التشدد هكذا في البسط، فلا تسل عن القبض، كفانا الله وإياكم الشرور والفتن وقبض النفوس والقلوب!