في بعض كتب التراث، من الظرائف واللطائف والمُلح، ما يبهج الخاطر، ويسرُ الناظر، ويفرح قلب المحزون، إما لسخرية، أو لغرابة، أو لندرة. أحد المصنفات التراثية التي حررها مُصنفها، وهو من المعاصرين، الذين كتبوا على منهج المتقدمين، كتاباً عنوانه: «كُنَّاشُة النوادر»، لشيخ المحققين، عبد السلام محمد هارون:(1909- 1988). رحمه الله.
وللدلالة على قيمة وأثر هارون، قالوا: لم يَخطّ أحد في التراث العربي سطرًا، إلا وللعالم الجليل عبد السلام هارون مِنَّةٌ عليه، وقليلاً ما ترجع إلى مرجع أو مصدر من كتب التراث التي أعيد طبعها وتحقيقها، دون أن يكون للمحقق هارون على العمل على هذا الكتاب، أو ذاك العمل، أو توجيه القائمين عليه، بما يسهل مشقتهم. لقد قدم عبدالسلام هارون للمكتبة العربية عيون تراثها، وأظهرها في حلية قشيبة، مبنى ومعنى، فحَقَّقَ الصحيح، واستبعد الضعيف، وأثبت بمنهج التحقيق العلمي ما يتوصل إليه.
ولكن ما سِرّ هذا العنوان الغريب للكتاب؟ وهل تَعَمَدَ أستاذ اللغة، اختيار عنوانٍ وَحشي، أي غير مألوف، لفتاً للأنظار؟! يجيب الأستاذ على سؤالنا في المقدمة، فينقل عن القاموس: كناشات بالضم، والشَّد: الأصول التي تتشعب منها الفروع. وعلَّق صاحب تاج العروس، بقوله: نقله الصاغاني عن ابن عباد. وإذن فهنا أصل عربيٌ، يُولد منه كناشة الأوراق. ويُعَقِّبُ عليه صاحب التاج أيضاً، بقوله: قلت ومنه الكناشة الأوراق تُجعل كالدفتر يقيد فيها الفوائد والشوارد للضبط، هكذا يستعمله المغاربة، واستعمله شيخنا – يعني ابن الطيب الفاسي اللغوي- في حاشيته على هذا الكتاب كثيرا، يعني حواشي ابن الطيب علي القاموس. أما الخفاجي: في شفاء الغليل. فيضبطه بلفظ كناش.
**مزاين الإبل في أوروبا: ولأن السيادة في هذه الأيام للمزاين، إبلاً وجِمالاً، أكَّد المؤلف أن أوروبا لم تعرف الإبل والجِمال والبعارين، إلا سنة 479 م، عندما عبر يوسف بن تاتشفين بلاد المغرب إلى الأندلس. ولمّا علم الفرنجة بخروج ابن تاتشفين إليهم، استنفروا فخرجوا في عدد لا يحصيه إلا الله، لمقابلته.
وينقل هارون عن ابن خَلِّكان، أن جموع الفريقين كانت تحتشد وتتآلف وتتدارك، حتى امتلأت جزيرة الأندلس (لا أدري كيف اعتبرها جزيرة) خيلاً ورجلاً من الفريقين. وأمر ابن تاتشفين بعبور الجمال مع الخيل، فعبر منها ما أغصّ الجزيرة، وارتفع رغاؤها إلى عنان السماء، ولم يكن أهل الجزيرة رأوا قطُ جَمَلاً، ولا كانت خيلهم قد رأت صورة الإبل، ولا سمعت أصواتها، فكانت خيل الفرنجة تحجم في المواجهة، خوفاً من مخلوقات لم ترها من قبل، في موقعة الزلاقة، التي ربحها المسلمون.
** عضّ كلبٌ رجلاً… عض رجلٌ كلباً: منذ عقود كل دارسي الخبر الصحافي، لا يمرون لمعاومة عن الخبر وصناعته قبل قاعدة العض والكلب والرجل. ولأن الأصل أن الكلاب هي التي يحتمل أن تَعُضّ الرجال، فيصدح الأستاذ في أذنيك، ليخبرك أن الصحافة الحقيقية، هي الحصول على الخبر المختلف لا التقليدي، الذي لا يؤثر في المتلقي، ويقول لك: ليس الخبر: عضّ كلبٌ رجلاً، بل الخبر: عَضّ رجلٌ كلباً!
يدرس الخبر الصحافي، يستخدم المقولة الشهيرة: إذا عض كلبٌ رجلاً، فهذا ليس الخبر، بل الخبر، أن يعض الرجلُ الكلبَ. ويُقِر عبدالسلام هارون بهذه النظرية، معتبراً أن عضّ إنسان عاقل حيواناً، أمراً تلفه الغرابة، وتحتويه الندرة. وينقل عن الآمدي في المؤتلف في ترجمة مُلاعب الأسنة، أوس بن مالك الجرمي، الشاعر الفارس:«وكان أوس شاعراً، عضّت اللبوة منكبه، فعضّ هو بأنفها، وقال:
«أعُض بأنفها وتعَضُ أنفي
كلانا باسلٌ بطلٌ شجاعُ
فلولا أن تداركني زهير
بنصل السيف أفنتني السباع».
قلتُ: ولولا أن ملاعب الأسنة أشار إلى أن صاحبه عاجل السباع بالسيف فكفاه منيته بأسنتها، لظن كثيرون أنه فيلم من إنتاج بوليود، مع أن بوليود، تخلت عن الإنتاج الذي يقاس عليه عض الرجال للكلاب، كفانا الله وإياكم الشرور، وبورك شهركم!
* السفير السعودي لدى الإمارات.