تمر الثورات العربية الحالية بمنعطفات حاسمة. في ليبيا تم القضاء على القذافي، وبغض النظر عن الجدل الذي دار ويدور حول التعامل الذي واجه الثورات بها جثته بعد موته، غير أن الذي يمكن تناوله هنا أن يعي الثوار أن القتل ليس كل شيء. هناك اختلافات بين المصريين برزت على السطح مع أحداث الأقباط. وخلافات بين الليبيين حالياً، والتوانسة يجربون حظهم الانتخابي، بينما اليمن في حال انتظارٍ واستمرار للاحتجاجات. هذه المرحلة الحاسمة في تاريخ الثورات العربية لابد من التأمل فيها. لأن الاعتياد على القتل بهذه الصورة، واستمراء الدماء بهذا الشكل يغرس فينا بعض مشاعر الإحباط. الثورات هدف الناس منها إلى تغيير الأنظمة من أجل الحرية والديموقراطية، والمساواة، وتلك الأهداف تشترط الإنسانية في التعامل، لا يمكن الحديث عن أي من تلك الأهداف من دون أن تتوافر الثورات على شرط الإنسانية الضروري والمحوري. وإذا كانت الإنسانية مطلباً اجتماعياً فإنها هي القاعدة الأساسية التي تبنى عليها الطموحات الأخرى. المشاهد الدموية التي يرتكبها البعض لا يمكن تبريرها ضمن الأهداف التي ثاروا من أجلها. يمكن للقوانين والأنظمة أن تكون هي سبيل الحسم في التعامل، حتى تطرح بالفعل الثورات نفسها كحلولٍ مهمة للاستبداد الذي عاشته الشعوب خلال العقود الماضية. مثلاً في اليمن، تفاجأ الناس بمحافظة اليمنيين إجمالاً عن سلمية الثورة، مع أن اليمن أضخم مستودع قطع سلاح في المنطقة. ومع ذلك لم يستخدمونه في خضم الأحداث، وهي بالنسبة والتناسب سلمية إذا قارنا بين كثافة السلاح الموجودة باليمن، وبين حضوره في الاحتجاجات. في سوريا أيضاً الثورة لا تزال سلميةً من قبل المتظاهرين، لكن النظام هو الذي يستخدم السلاح ضد العزّل، وهذه هي المشكلة، أن النظام السوري لا يريدها سلمية. أما في ليبيا فالأمر مختلف بعض الشيء. كانت الثورة أشبه ما تكون بالحرب الداخلية بين طرفين، بين كتائب القذافي وبين الثوار، وحضر “الناتو” لحماية الثوار، ولئن بدأت الثورة الليبية سلمية، غير أن القذافي أرادها أن تكون حرباً، وكذلك صارت. الأهداف التي أقيمت من أجلها الثورة تحتاج إلى التفكير المستمر، أن يتساءل الثوار، متى نبدأ ببناء المؤسسات؟! في مصر كما في تونس، الأنظار في العالم على المسيرة الديموقراطية التي سيتم البدء بها، وعليهم إثبات نجاح الثورات، ونجاحهم في تحقيق أهدافها. عليهم بناء المؤسسات والشروع في التجارب الديموقراطية بكل سلاسة، لئلا تكون الثورات مجرد ذهابٍ برئيس ومجيءٍ بآخر. وكذلك الأمر في ليبيا التي كانت أصلاً غير مبنيّة، ثم هدم ما بني منها! وأخطر ما يواجه الليبيين القضاء على نهج القذافي وليس فقط على شخصه، حتى لا يقال لاحقاً:”ذهب القذافي وبقي نهجه”. الأعباء الحالية كبيرة على الثائرين، وآمل أن تختفي لغة السلاح والدماء، حتى أصبحنا نخفي الشاشات عن أبنائنا خشية استمرائهم لمشاهد دموية مزعجة، لتكن الإنسانية بكل مساحتها الشاسعة هي الأرض التي تجمع الناس، وكما قال ساركوزي “ليكن الصفح” هو العتبة الأولى للدخول إلى مرحلةٍ إنسانية جامعة. لتقلب الصفحة وليبدأ الناس من جديد في بناء الدولة، وفي إنقاذ ما تبقى من بنى تحتية. لا يمكن لأي ثورةٍ أن تحقق الأهداف، من دون البدء بعتبةٍ تمهيديةٍ لها، والإنسانية والصفح هما الأساس، أما الاستمرار بملاحقة كل شخصٍ كانت له شبه علاقة بهذا النظام المخلوع أو ذاك فهذا يعني أننا سنستمر في دوامات كبيرة، لأن الأنظمة المنتهية كانت متغلغلةً لدى الناس وما لم يكن برقبة هذا المنضوي ضمن النظام دم أو جرم واضح فإن الصفح مطلوب، حتى لا نكون أمام مراحل “اجتثاث” داخلية في الدول والمجتمعات الثائرة.
جميع الحقوق محفوظة 2019