عُشاق الكتب، المدمنين على التعامل مع الكتاب قراءةً واقتناءً، يزخر بهم التاريخ البشري. من أولئك في السعودية، أبو يعرب، محمد القشعمي، الأستاذ الجذل بمكتبته، والساكن فيها.
بعد تقاعده، لاذ بكرسيه الوثير بين أحد عشر ألف كتاب. لم يؤلف إلا بعد سن الخامسة والخمسين، تأثر كثيراً بأستاذه الكبير الراحل، عبدالكريم الجهيمان، وكان لازمه مثل ظلّه، واستمد منه حب المعرفة، والشغف بالمطالعة، ويعتبر القشعمي أستاذَه الجهيمان بمثابة الأب الثاني، حيث يفهمه جيداً، وبعد أن تجاوز التسعين خاف أبو يعرب على الجهيمان من كثرة المشي في الشوارع، لذا اختار متابعته من دون أن يشعره بذلك، يقول: «خفت عليه أن يسقط في حفرة، أو يتعرض لمكروه». رحل الجهيمان دون أن يعلم أن القشعمي، كان يحرسه من بعيد.
لم يشعر أبو يعرب، بملل بعد التقاعد، إذ يقضي معظم يومه في مكتبته، ويعتبرها الكون كله، ولا يرى بهجة وسروراً في غيرها، ومع أنه لم يبدأ التأليف إلا في بعد تجاوزه سن الخامسة والخمسين، إلا أنه برع في التراجم، وتميز في الاستقصاء وتحري المعلومة والبحث والتنقيب عنها، فأصبح مثالاً يحتذى.
اذكر أنه قبل أن يصدر كتابه عن أول صحافي نجدي، سليمان الصالح الدخيل (توفي1944)، سألني عنه بحكم صلة القرابة، فكان ما لديه من معلومات لا يقارن كماً وكيفاً بما لدي. ولا عجب أن تصفه صحيفة (عكاظ) في حوار أجراه معه بدر الأحمدي في 24 فبراير 2011 بأنه «دودة الكتب وسفير الثقافة والمثقفين».
مؤرخ القراءة، والمكتبات، ألبرتو مانغويل، لا يعتبر المكتبة مجرد رفوف تحمل مجموعات من الكتب، بل يعتبر المكتبة قصيدة بذاتها، لكل زاويةٍ منها دلالة، وفي كل مساحةٍ منها علامة وصورة، حتى طريقة ترتيبها، يعبر عن مزاج القارئ، وأسلوبه، وفنه. وقد خصص فصلاً بعنوان: «المكتبة كترتيب»، ضمن كتابه: «المكتبة في الليل»، يقول فيه:
«يتيح لي ترتيب مكتبتي بحسب الثيمات والأبجدية تلك، الألفة رغم الأسماء، ورغم الركون إلى ما قد اختزنته من دراية، موقظاً مشاعر ما من كلماتٍ لا تعبر عنها إلا تلك الكلمات التي على الصفحة، ويتيح لي أن أخوض في مالا أتذكر منه إلا ما عشته من تلك الحكاية المطبوعة، فلمعرفة ما إذا كان ثمة كتاب ما موجود في مكتبتي يتعين علي إما التعويل على ذاكرتي، أو على نظام فهرسةٍ… ما سلف أعلاه يرغمني على خوض علاقةٍ يومية مع كتبي، العديد منها لم يُفتح أو يُقرأ ولكنه ليس منسياً، بالمواظبة على استعراض الصفوف أتفحص ما هو موجود لدي وما هو غائب».
والمكتبة مكان غير خاوٍ، وإنما له حياته وحيويته، بها تتلاطم أمواج التاريخ، وتسرد عبقرية الأعلام، وتروى تحولات التاريخ.
والتمتع بالذاكرة الحية، لأماكن الكتب، حتى وإن لم تفهرس، ليست هواية مانغويل وحده، بل هي هواية نموذج سعودي ساطع، هو العلامة محمد بن ناصر العبودي، والذي كان له قصب السبق في تأسيس المكتبة العامة في بريدة، والعمل بها، وقد اختير لهذه المهمة علاوةً على فضله وعلمه، بسبب تمتعه بقدرة استثنائية على تمييز الكتب ومعرفة مكانها، فهو يتفرس في المكتبة ويطالعها باستمرار، حتى لا يكاد يخطئ بصره موقع كل كتاب فيها.
ومع الثورة التكنولوجية، بقيت المكتبة ممانعةً ضد اجتياح التقنية، مع تطور وسائل القراءة، بما لا يتعارض مع الكتاب الورقي، إذ يستعمل القراء أجهزةً عديدة لدعم قراءاتهم إلكترونياً، تبعاً لتحولات الحياة وسرعتها، ولكن يبقى فضاء المكتبة له طقوسه، وصداقة المجلدات لها متعة خاصة، حتى أن بيتاً ليس في مكتبه يصعب أن يكون مكتملاً.
وعودة لمانغويل، فقد استطرد في كتابه آنف الذكر، بسرد معاناته مع المساحات الضيقة، أمام تراكم كتبه، حتى أنه استعمل أجزاء من مطبخ لصف الكتب، فيعاتبه أولاده، قائلين: «يبدو أننا نحتاج إلى بطاقةٍ مكتبةٍ حتى ندخل إلى البيت».
المكتبة هي قلب البيت، فهي السكينة والبهجة، بها يسافر الإنسان بين العقول، ويسيح في غابر التاريخ وحاضره، ومن قبل قال صموئيل جونسون:”ليس ثمة مكان يضفي قدراً أكبر من الإيمان الراسخ بتسامي آمال الإنسان أكثر من مكتبة عامة.
*سفير المملكة في الإمارات.