لا يزال المفكر الأميركي فرانسيس فوكوياما يثير الجدل من خلال النظريات والآراء التي يطرحها، فهو مفكر غير تقليدي، دائماً يثير الجدل والحراك، بدليل ما ذكره في مقالته «نهاية التاريخ»، والتي طرحها في «National Interest» عام 1989 ليطوّرها من بعد إلى كتاب كامل طرح عام 1992 بعنوان «نهاية التاريخ والإنسان الأخير»، خلص فيه إلى أن تاريخ الاضطهاد والنظم الشمولية قد ولى وانتهى إلى غير رجعة، مع انتهاء الحرب الباردة، وهدم سور برلين، لتحل محله الليبرالية وقيم الديمقراطية. وهو هنا يخالف فكرة نهاية التاريخ في نظرية كارل ماركس الشهيرة «المادية التاريخية»، والتي اعتبر فيها أن نهاية تاريخ الاضطهاد الإنساني ستنتهي عندما تزول الفروق بين الطبقات. تأثر فوكوياما في بناء نظريته بآراء الفيلسوف الشهير هيجل الذي ربط بين نهاية تاريخ الاضطهاد الإنساني واستقرار نظام السوق الحرة في الديمقراطيات الغربية. يذكر المفكر اللبناني علي حرب في نقده لفوكوياما عبر العديد من كتبه، أن قيمة هذه الفكرة في النقد الذي غذّته، إذ لم يوجد تقريباً مفكر مهتم بالنظرية السياسية في العالم إلا وعلّق على «نهاية التاريخ»، سواء بالنقد، أو بالتأييد أو بالملاحظة والتعقيب والتعليق. بالطبع حاول فوكوياما التعقيب على موضوع «نهاية التاريخ» بكتابه الصادر عام 2012 بعنوان « بداية التاريخ.. منذ أصول السياسة وحتى اليوم»،غير أن مستوى المفكر وقيمته لا تعني عدم نقده في أكثر من زاوية. يرى فوكوياما أن «أكبر تحد يواجه الديمقراطية الليبرالية في المنطقة هو صعود الإسلاميين،هو لا يعترض على الدين كدافع للحراك والتمرد، لأن الدين في نظره ظل على مر التاريخ مصدراً مهماً للهوية والتعبئة، ليس في العالم الإسلامي وحده، بل في سائر المجتمعات البشرية حتى الأوروبية منها، وأن الحضارة الصينية هي وحدها التي لم تستند إلى مرجعية دينية، لكنه يخشى خطاب التيارات السلفية الراديكالية التي تجهر بعدائها للديمقراطية». هنا يحصر الهوية التي تعبئ الجماهير وتوقظها بالمعنى الديني حين يتحدث عن الإسلاميين، وهذه النظرة هي الثغرة الكبرى في التحليل الغربي، حين تعتبر جماعة «الإخوان المسلمين» بأنها «جماعة سياسية» تتبنى خطاباً ليّناً ولا تعارض دخول المرأة في العمل السياسي، لكنهم ينسون التأسيس الفكري الصلب الذي يصل بين الجماعة وبين تنظيمات إرهابية، مثل «القاعدة»، و«داعش»، و«النصرة»، وسواها.. هذه الجماعات كلها تتغذى على أيديولوجيا واحدة، وتعبّ من مستنقعٍ واحد، فالتفريق بين إسلام راديكالي وآخر عادل معتدل ليّن سهل، هي خدعة وقع فيها الخطاب الغربي أثناء معالجته لما يسمى «الربيع العربي». وبرأيي أن هناك خطابات تبالغ في تقديس الحقوق مقابل تقديس الإنسان وحياته، حين يلاحَق تنظيمٌ إرهابي، أو يُسجن متورطٌ بتفجير، تنفعل المجاميع الحقوقية وتبالغ في ردة فعلها. أظنّ أن هناك مقارنة غير موفقة بين المعاني الحقوقية الغربية والشرق أوسطية، حين تلاحق الدولة خلية إرهابية فإنها تحافظ على الإنسان والفرد وعلى حياته، بالمقابل تدافع بعض المنظمات عن الفرد «المتورط» باسم الحقوق، حتى دافعت منظمات عن خلايا تورطت بأعمال إجرامية ومخططات فاجرة في السعودية والإمارات وغيرها! هل يعقل أن تقوم مؤسسة ذات اتصال بالحقوق والحريات بالدفاع عن خلية قاعدية؟! فوكوياما على قدره وإسهاماته النظرية، فإنه حين يتحدث عما يسمى «الربيع العربي» في تصريحاته وكتاباته وعن الإسلام السياسي، تنقصه الإدراكات التفصيلية بحكم بعده عن المشهد، فالإرهاب ملة واحدة، وليس هناك إرهابي وسطي، وآخر راديكالي.
جميع الحقوق محفوظة 2019