لا شك أن لبنان إنْ لم يكن أجمل البلدان العربية، حتى لا نكون قطعيين في أمور نسبية، فهو من أجملها. جمال لبنان بأهله، وثقافته، وتعدديته، وثرائه المعرفي، وجغرافيته، وطقسه، فهو على سبيل المثال من الأماكن القليلة التي تجمع الجبل والساحل والوادي في بقعة جغرافية صغيرة.
غير أن هذا البلد الصغير الصاخب لم يكتب له الاستقرار منذ عقود إلا لماماً، وكلما هدأت عاصفة التهبت أخرى.
فمن حرب إلى سيطرة الجار الأكبر، ثم كانت الذيول تبايناً بين الفرقاء، وما مؤتمر الحوار الوطني بين الفصائل اللبنانية عنا ببعيد فهو ابتدأ ومن غير المتوقع أن ينتهي قريباً، ربما تأكيداً على أن اللبنانيين مقتنعون بضرورة الحوار وأهميته ولذلك يريدونه أن يطول ولا ينتهي!
السياسة في لبنان هي جزء من تركيبة العقلية اللبنانية، ولو سمعت أن ما يجري في دماء اللبنانيين ليس دماً بل سياسة، فلا تستبعد هذه المبالغة التصويرية القريبة من الواقع. فاللبناني ذكراً كان أم أنثى يدعوك إلى فنجان قهوة، وقبل أن تفوح الكركة يفوح من حديثه حديث سياسي ينتقد فيه هذا الزعيم وتلك الكتلة وذاك التوجه، وربما تقضي معه الساعات فلا تجده منتمياً إلى أحد سواه!
وبالرغم من ولع اللبنانيين بالسياسة إلى أنهم من أكثر شعوب الأرض عشقاً للحياة، واستمتاعاً بها، وغير بعيد أن اللبناني مشهور بأنه يصرف ما في جيبه على مركبه وملبسه ومتعته، حتى لتخاله يخلف وراء ظهره أموالاً لا عد لها ولا حصر، مع أنه قد لا يملك إلا ما رفّه به نفسه ملبساً ومركباً وأنساً. ولذلك أصبح تفريخ الفنانين والفنانات في لبنان متكاثراً حتى قالوا إن لكل مواطن لبناني أربعة مطربين، وراقصة، خلافاً للفرقة المستخدمة في العزف.
ولم تمنع الحروب والسياسة وتشعباتها اللبنانيين من المتعة، فقد كان اللبناني يسهر ليلاً ليتقوى على إدارة المعركة في النهار. أثناء زيارتي الأخيرة إلى لبنان كان الحوار الوطني حاضراً في أحاديث اللبنانيين كما صور رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، وكأن اللبنانيين أرادوا أن يؤكدوا عروبتهم بتذكرهم الرموز عندما يفقدونها فقط.
أذكر أني زرت لبنان كثيراً، وكنت أستمع إلى كثيرين ينتقدون رفيق الحريري (على الطالعة والنازلة) كما يقولون، لكنهم عرفوا قدره عندما فقدوه.
وفيما تستطيع أن تعرف في لبنان انتماء سكان الحي أو المنطقة، فإذا وجدت لافتات سوداء وصور الخميني وخامنئي، فأنت في منطقة شيعية، وإذا رأيت صور سعد الحريري مذيلة بكلمات الفداء، فأنت في منطقة سُنة، وفيما تراجعت صور لحود من مناطق المسيحيين، فإن الأجواء توحي لك بالانتماء.
لكنك نادراً ما تجد ما يشي بانتماء للبنان الوطن، بعيداً عن الزعيم والطائفة والكتلة، وهذا أمر مؤسف بطبيعة الحال.
غير أن اللافت في آخر زيارة هو ما لمسته من سخط شعبي على الزعامات اللبنانية السياسية بعامة، وهمس الناس بات حديثاً صاخباً عن سياسيين يبحثون عن مصالحهم كأشخاص وطوائف أو كتل، لا عن مصلحة لبنان وطناً وكياناً، لأن هؤلاء لا يعانون كما يفعل “المعترين” البؤساء، أولئك الذين يدفعون ثمن أخطاء الساسة دون أن يذنبوا ذنباً سوى كونهم يعيشون وإياهم على نفس الأرض ويتنفسون ذات الهواء!
هذا السخط تستطيع أن تسمعه على أنغام الموسيقى إذا ما أدرت المذياع على إذاعة محلية ليصادفك فنان يصدح بأغنية غريبة في كلماتها: “يلعن أبو السياسة على أبو الكراسي!”
كل ذلك لأن أربابها والباحثين عنها لا يعبأون بالبسطاء!
جميع الحقوق محفوظة 2019